العدد 2 - ثقافي
 

يكتشف طفل في الثامنة من عمره، تلميذ في مدرسة ابتدائية في إحدى القرى الإيرانية الفقيرة، عند عودته إلى المنزل بعد انتهاء الدوام، أن بحوزته دفتر الواجبات المنزلية الذي يخص التلميذ الجالس قربه. ولأنه يعرف أن المدرس سيوبخ زميله في اليوم التالي إن لم يحضر وقد حل الواجب على دفتره، فهو يقرر البحث عن منزل زميله في القرية الأخرى المجاورة لكي يعيد له الدفتر. ويركض الطفل مسافة أميال وسط الحقول ويصل إلى قرية زميله. لكن الطفل لا يعثر على منزله إذ أن اسم زميلة مشابه لاسم عشرات أطفال القرية الآخرين. يعود الطفل إلى قريته مسرعاً ومحبطاً. وسيكون لزاماً عليه أن يحضّر دروسه، وأن يلبي طلبات والدته المتكررة للمساعدة في شؤون البيت. لكن الطفل يقرر العودة ثانية لقرية زميله رغم اقتراب الغروب. وهو ينجح في نهاية المطاف في العثور على المنزل بمساعدة نجار القرية العجوز، ولكن في وقت متأخر من الليل. وهكذا يقف الطفل عاجزاً أمام الظلمة المطبقة على المنزل وعلى السماء من حوله، وخائفا من أصوات العواء التي تأتيه من بعيد. فيعود أدراجه إلى قريته هارباً وخائفاً من أن يقرع الباب. في الصباح التالي يصل الطفل إلى المدرسة، يدخل الصف ويذعن لتوبيخ المدرس لكونه جاء متأخرا بعض الشيء، ويتجه فوراً إلى مقعده ويخرج من حقيبته دفتر زميله الخافض الرأس خوفا من العقاب ويسلمه الدفتر، لنكتشف أنه قام بحل الجواب نيابة عن زميله.

إذن، نحن أمام قصة بسيطة لفيلم إيراني بعنوان" أين بيت صديقي". عرض فيلم" أين بيت صديقي" في العام 1987 في أكثر من مهرجان سينمائي دولي ونال منها العديد من الجوائز وشكّل عرض هذا الفيلم الذي أبهر كل من شاهده بشفافيته وشحنة العاطفة القوية المبثوثة في ثناياه وعمق أفكاره مفاجأة سارة للأوساط السينمائية العالمية التي لم تكن تعرف شيئا عن السينما الإيرانية، وكان يظن أنها أصبحت مجرد بوق دعائي لأفكار الثورة الإسلامية. منذ هذا الفيلم سيصبح للسينما الإيرانية حضور كاسح في المهرجانات السينمائية الدولية وستحصد الأفلام الإيرانية أهم الجوائز في هذه المهرجانات وستضاف أسماء بعض المخرجين الإيرانيين إلى قائمة أهم المخرجين العالميين المعاصرين، ومنهم عباس كياروستامي، مخرج فيلم" أين بيت صديقي" ومحسن مخملباف، مخرج عدد كبير من الأفلام الإيرانية الهامة منها فيلمه " غابيه"( السجادة) و"قندهار" ومجيد مجيدي الذي سحر عشاق السينما بأفلامه ومنها فيلم" لون الفردوس".

كانت المفاجأة الأولى التي صاحبت نجاح السينما الإيرانية عالميا أنه تبين بعد انتشار الأفلام الإيرانية في العالم أن الفكرة المسبقة عنها بأنها بوق للسلطة غير صحيحة بتاتا، بل على العكس من ذلك فهي سينما معارضة و انتقادية تستقي موضوعاتها من حياة بسطاء الناس وتتحدث بجرأة عن الفقر والتخلف والفساد في المجتمع المعاصر في ظل الدولة الإسلامية ولا تتورع عن كشف عيوب المجتمع وتوجيه اللوم إلى السلطة وإن بدون مباشرة تعرضها للمشاكل مع الرقابة، وتستفيد من أجل الوصول إلى هدفها وحريتها في التعبير، من سرد قصص أبطالها من الأطفال الذين تشكل معاناتهم، على ما في تصويرها من واقعية، رديفا أو معادلا رمزيا لمعاناة المجتمع.

كانت المفاجأة الثانية تكمن في أن الأفلام الإيرانية تقوم على مبدأ السهل الممتنع، فهي تروي قصصا بسيطة ظاهرياً، لكنها شديدة التأثير في النفوس و عميقة المعنى وواسعة ومتعددة الدلالات، أفلام تبرع في الكتابة على السطور وما تحت أو ما بين السطور، أفلام ذات حبكة قد تبدو تقليدية للوهلة الأولى فيتفاجأ المشاهدون بتحولاتها غير المتوقعة التي تثري السرد وتجعله أكثر إثارة وتنجح في أن تنطلق من الخاص إلى العام. هكذا تكشفت الأفلام الإيرانية عن براعة في السرد يمتلكها المخرجون كان لها الدور الكبير في نجاح السينما الإيرانية عالميا ليس فقط في أوساط السينمائيين والنقاد المحترفين بل أيضا عند عامة المشاهدين الذين أتيحت لهم فرصة التعرف على هذه النوعية من الأفلام.

أما المفاجأة الثالثة فكانت في أن السينما الإيرانية سينما مرتبطة بالتراث الإيراني الأدبي والفني وذات هوية وطنية محلية واضحة، لكنها في الوقت نفسه سينما منفتحة على الثقافات العالمية الكلاسيكية والمعاصرة. وقد قدر لي شخصيا أن أشاهد في العام 1993 أثناء حضوري مهرجان الفجر للسينما الإيرانية في طهران العرض الأول لفيلم إيراني عنوانه على ما أذكر" نقطة الصفر" تجري بعض أحداثه في الجولان السوري المحتل، وتدور حول أزمة شاعر يعاني من العجز الإبداعي فيستدعي في خيالة كل المبدعين العظماء في كافة حقول الأدب والموسيقى والمسرح علهم يساعدونه في محنته الإبداعية، يستدعي شكسبير وتولستوي وبيتهوفن وكثيرين غيرهم كي ينجدوه. وفي أثناء مشاهدتي لهذا الفيلم لم أصدق أذناي وهما يصغيان لمقاطع من قصيدة تقول كلماتها المترجمة أسفل الشاشة" أريد أن أعيش هكذا، في كل عام أكتب كلمة، وفي كل جيل أخطو خطوة" فقد تبينت في هذه الكلمات واحدة من القصائد التي أحببتها للشاعر السوري الكبير محمد الماغوط منذ أن نشرت في بداية ستينيات القرن المنصرم في ديوانه الرائد الشهير" غرفة بملايين الجدران". وكم كان جميلا أن يتوقف بطل الفيلم لحظة بعد قراءة هذه الأبيات ويختم قراءته لها فينطق

بصوت حميم دافيء اسم محمد الماغوط.

كانت المفاجأة الرابعة أن السينما الإيرانية تعتمد في غالبيتها، أو على الأقل، في غالبيتها التي عرضت عالميا، على الإنتاج البسيط غير المكلف، سينما لا تعتمد على التقنيات الحديثة المتطورة، وبخاصة في مجال المؤثرات البصرية، ولكنها بالمقابل سينما متمكنة حرفيا ومهنيا لا تعاني من العيوب الحرفية التي نجدها في معظم الأفلام التي تصنع في دول العالم النامي، سينما لا تعتمد على نظام النجوم بل على الممثلين غير المحترفين الذين يتم انتقاؤهم من عامة الناس، ولكن على أساس ملائمتهم للشخصيات المطروحة في الفيلم سواء من الناحية الشكلية أو من ناحية كونهم يعيشون في حياتهم اليومية ذات الحياة أو الواقع الذي يتحدث عنه الفيلم ويعرضه. والمثير في الأمر أنهم يظهرون على الشاشة بشكل مقنع وكأنهم يمتلكون الخبرة الطويلة في مجال التمثيل. وتنطبق هذا الملاحظة بخاصة على الأطفال الذين يقومون بأدوار البطولة ويتحملون عبء أحداث الفيلم كله. وهذا لا يعني انه لا يجري استخدام ممثلين محترفين، ففي العديد من الأفلام الإيرانية يوجد ممثلون محترفون إنما جنبا إلى جنب مع غير المحترفين.

ترتبط المفاجأة الخامسة بكون السينما الإيرانية محلية ووطنية التمويل تعتمد على وعي المستثمرين في القطاع الخاص من أصحاب الأموال الإيرانيين لأهمية الفن، وبالتالي تقديمهم الدعم اللازم لإنتاج الأفلام الوطنية، وهي الأفلام التي أثبتت جدارتها على المستوى الشعبي، إذ ظلت تلاقي النجاح، أو على الأقل، الإقبال الملائم، عند عرضها في صالات السينما المحلية، كما أن هذا النجاح شجع المؤسسة الحكومية المعنية بالسينما، وهي مؤسسة "الفارابي" على دعم توزيع هذه الأفلام، محليا في البداية، ثم عالميا في مرحلة لاحقة.

المفاجأة الأخيرة التي نتحدث عنها هنا هي أن السينما الإيرانية سينما متقنة صوتاً وصورة، كتابة وإخراجاً، سينما يصنعها مخرجون موهوبون لكل منهم لمسته أو أسلوبه الإبداعي المميز. وليس هذا فقط ، فغالبية المخرجين، وبخاصة الذين اشتهروا خارج إيران يتمتعون بثقافة واسعة وشمولية، وهم متعددو المواهب والانجازات الإبداعية، هم في الوقت نفسه رسامون وكتاب روائيون وشعراء وحتى مفكرون وباحثون لهم مؤلفات في مجالات فكرية ثقافية متنوعة. ويمكن التأكد من هذه الحقيقة بالرجوع إلى السير الذاتية لأولئك المخرجين التي تتوافر في المواقع السينمائية ومواقع البحث على شبكة الانترنت.

ما يعنينا من الحديث عن تجربة السينما الإيرانية المعاصرة حول إمكانية الاستفادة منها لخلق سينما وطنية، وبخاصة في دول لا توجد فيها سينما، إنما يوجد سينمائيون يطمحون لصناعة أفلام سينمائية. وهذا ينطبق على العديد من الدول العربية ومنها الأردن، التي بدأ فيها الحراك النشيط لصنع أفلام وطنية، حيث تساعد التقنيات الالكترونية الرقمية على تحقيق هذا الهدف في ظل غياب البنية التحتية السينمائية التقليدية وتقنياتها المكلفة.

لماذا نجحت السينما الإيرانية عالمياً؟ - عدنان مدانات
 
15-Nov-2007
 
العدد 2