العدد 13 - بورتريه
 

محمود الريماوي

بين شخصيات الأردن يمثل أحمد عبيدات طرازاً نادراً، فقد احتفظ منذ نحو أربعة عقود بصفة رجل دولة يحظى بالاحترام والصدقية، ثم وجد نفسه ودفعته مواقفه منذ أواسط ثمانينات القرن الماضي للتقدم على مسرح الحياة العامة، بوصفه أحد أبرز الرموزالمستنيرة والمستقلة والشجاعة.حتى إن البعض لا يتردد بإدراجه في خانة المعارضة، ربما لحاجة المعارضة لاجتذاب شخصية مستقلة ووازنة الى صفوفها. بناء عليه يردد كثيرون أن الحياة السياسية والمهنية لعبيدات المولود في قرية حرثا لواء بني كنانة قبل سبعين عاماً، تنشطر الى شطرين. الأول : خدمته في سلك المخابرات ووزيراً للداخلية ورئيساً للوزراء.والشطر الثاني يبدأ مع استقالة حكومته في الرابع من نيسان/أبريل 1985 ،واتخاذه موقفاً معارضاً لكامب ديفيد ،رغم أن تلك الاتفاقية لم تكن حديثة العهد. وما تلا ذلك من ترؤسه ل"لجنة الميثاق الوطني" حيث شكل الميثاق مرجعية ودليلاً لمرحلة التحول الديمقراطي أو استئناف الحياة النيابية في تحقيب آخر، ويتواصل هذا الطور حتى أيام الناس هذه.

منذ ذلك الحين، اتخذ عبيدات موقعه كشخصية وطنية مستقلة.وقد سعى مع طاهر المصري لتشكيل تيار ديمقراطي في مطلع التسعينيات، لكن الرجلين أقلعا عن الفكرة في ضوء التكاثر الحزبي آنذاك، وكما يبدو لما لمساه من ضبابية دور وحتى مفهوم الحياة الحزبية في المرحلة الجديدة لدى كثيرين، بما في ذلك تحديد الفروق بين تنظيم حزبي وتيار فكري سياسي.لكنهما بقيا معا نصيرين ثابتين لديمقراطية دستورية ذات فضاء محلي وأرومة وطنية وأفق تنويري.

دراسة عبيدات، للقانون في بغداد مطلع الستينيات، شكلت خط مسيرته، فلم تكن كما هو بادٍ مجرد دراسة طلباً لشهادة والتماساً لوظيفة، بل كان اختيارها يعكس نزوعاً دفيناً لدى صاحبه نحو خوض العمل العام برؤية قانونية.ابتداءً من عمله محامياً ظل يمتلك مكتبه الخاص (لمع اسمه مجدداً في هذا الحقل بتوكله عن سميح البطيخي في قضية التسهيلات المالية، حيث ترأس قيادي في المخابرات لم يلبث أن أصبح مديراً للدائرة، محاكمة مدير سابق، فيما ترافع عن الرجل مدير سابق للدائرة..).

عمل عبيدات في مستهل حياته العملية معلماً في وزارة التربية ثم موظفاً في الجمارك، قبل أن ينتقل ضابطاً في المخابرات حيث بدأت حياته المهنية الفعلية. وقد يسهل في ضوء هذه المسيرة استشفاف رؤية الرجل بل دافعيته. فقد قادته قناعاته كدارس حقوق، لأن يكون جزءاً من الدولة التي يؤمن بها وبنظامها وقيادتها، كما يؤمن بشعبه ووطنه وأمته. وبما أن الدولة كل دولة هي بنيان قائم على التوازن والتكامل بين السلطة والقانون، فإنه سيكون مفهوماً تبعاً لهذه النظرة أن يخوض معترك الحياة فيمضي الشطر الأول من مسيرته في موقع السلطة ومصدر القوة والميدان الرئيس لممارستها. وقد شاءت المقادير السياسية أن تكون تلك الفترة حتى العام 1982 ،هي فترة الأحكام العرفية..وما أدراك ما هي هذه الأحكام! لينتقل بعدئذ الى الموقع الحقوقي القانوني، أو الركن الثاني من معادلة الدولة. دون أن يبدو في الأمر كبير تناقض، كما يرى البعض ممن تحيرهم شخصية الرجل، وإن كانت لهؤلاء ملاحظات تستحق التوقف عندها على تشدد ما يشوبه إفراط، علماً بأن المواقع الأمنية في العالم الثالث وفي غير العالم الثالث أحياناً، لا تتسم بطبيعتها باللين والمهاودة خلافاً لأداء الدوائر الدبلوماسية مثلاً.

من المحطات الهامة في الشطر أو الطور الثاني لحياته المهنية، أن العين احمد عبيدات "ترافع" تحت قبة المجلس ضد جوانب في الاتفاقية الأردنية - الإسرائيلية في العام 1996 وكان من الطبيعي أن يتقدم باستقالته من عضوية مجلس الأعيان قبل التصويت عليها. غير أن هذه الانعطافة النوعية في مواقفه ،بل حتى ما قيل عن اعتصامه مع آخرين في خيمة تضامن مع أحمد الدقامسة قاتل طالبات إسرائيليات في وادي عربة. لم تمنع تلك الانعطافة أن يتوج حياته المهنية قبل خمس سنوات رئيساً ل"المركز الوطني لحقوق الإنسان" الذي ورث "اللجنة الملكية لحقوق الإنسان" التي لم تعمر طويلاً ولم تترك أثراً يدل على ما كان من وجودها. اختياره لهذا الموقع جاء موفقاً وصائباً، وقد عكس بالفعل رحابة أفق الدولة الأردنية. هذا الصرح أثبت أنه ليس مجرد يافطة برّاقة ولا ديكوراً زاهياً، وليس موقعاً لوجاهة معنوية للقائمين عليه (مجلس أمنائه) "نعمل ضمن أطر قانونية ومعايير دولية : الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، المعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، المعهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، والدستور الأردني كمرجع فائق الأهمية. لسنا منظمة حكومية بالمعنى السائد للتعبير ولا نحن دائرة حكومية، بل مؤسسة وطنية ذات استقلال، فأعضاء مجلس الأمناء ليست لهم صفة رسمية وليس هناك تيار سياسي يقود ويؤثر في عملنا". كما ذكر في مقابلة أجراها الكاتب حلمي الأسمر ونشرتها "الحقيقة الدولية " في يناير/كانون الثاني من العام الماضي.

على هذا النحو يعرف عبيدات هذا المركز الذي يقوده، وبصفته هذه، فقد ثار فضول كثيرين لاختيار الملك لعبيدات لمرافقته في زيارة أداها جلالته للهند أواخر شباط/ فبراير2006. وقد عكس هذا الاختيار مدى التقدير الذي يحظى به الرجل لدى المقام العالي.

يصدر المركز الوطني تقارير سنوية ودورية ،وما زال طرياً في الذاكرة فحوى التقرير الانتقادي للانتخابات البلدية التي جرت في صيف العام الماضي، والتقرير المماثل عن الانتخابات النيابية التي جرت قبل ثلاثة أشهر، مما جسد استقلالية المركز ووفائه المكين لمقتضيات عملية انتخابية حرة ونزيهة في سائر جوانبها ومراحلها. ومن المفارقات أن المركز تعرض لحملة إعلامية من طرف منابر وأصوات شبه حكومية ،في سابقه قل نظيرها بالتشكيك بأداء هيئة قامت وتنشط وفق إرادة ملكية سامية وترفع تقاريها لمكتب الملك.

وإذ تتنبه المعارضة لهذين التقريرين، فإن بعض هذه المعارضة ولضعف النازع الديمقراطي الإنساني لدى هذا البعض ، يغفل عن الطروحات المتقدمة للمركز بشأن عقوبة الإعدام مثلاً ،وضرورة إعادة النظر في تصنيف الجرائم الموجبة لإصدار الحكم بهذه العقوبة.وهو ما أدى بعدئذ الى مراجعة التشريعات بهذا الخصوص، وزيادة الوعي بأهمية إعادة النظر في هذه العقوبة. وكذلك الأمر في معاملة السجناء بما في ذلك حالات تعذيب في مراكز الإصلاح.بل إن تشديد تقارير المركز على عمومية القوانين ونفاذها والسعي لتطويرها قد لامست ظاهرة جرائم الشرف وأخذ القانون باليد ، فضلاً عن الحقوق الاقتصادية والقانونية لصغار العاملين.

وإذ يمكن تصنيف ابو تامر، كقومي ديمقراطي، فإنه يتقدم بأشواط على قوميين تقليديين في استنارته التي تجعله يأخذ بمعايير دولية (هي ثمرة كفاح تاريخي للبشرية وحصيلة تعاقد الأمم في نادي الأمم) ويحتكم لمحددات دستورية لا لعواطف فياضة وعصبيات جياشة. وينأى بحقوق الإنسان عن التسييس والذرائعية (نصرة جماعتنا ومن يوالينا ،وغض النظر عن انتهاكات تلحق بخصومنا السياسيين والفكريين..).هذه الاستنارة حملته لأن يتقدم كأحد كبار أصدقاء البيئة والساعين لحمايتها رئيساً ل"جمعية البيئة الأردنية"، فيما يحتسب آخرون أن الالتفات للبيئة محض ترف ولزوم ما لا يلزم وربما هوى غربي، قياساً بالمهام القومية الجسام، ومن هذه المهام تسويغ وتزيين الديكتاتوريات والتبشير بدوامها الى الأبد..

أحمد عبيدات: إضاءة بعيداً عن “مقام الحيرة”..
 
14-Feb-2008
 
العدد 13