العدد 2 - ثقافي
 

في الغرفة ظلام دامس. يجلس الموسيقي وهو يعزف ألحانه الحزينة وقد امتلأ قلبه بالحسرة على فقدان من أحب. ولفرط ما هو شديد الحساسية يشبه طعم هذا الفقد عنده طعم الموت – وربما يكون هذا الفقد موتاً حقيقياً. يبكي الموسيقي الذين رحلوا من خلال ألحان يعزفها وكلمات يغنيها، فيجسد اللحن خطواته التي يخطوها في جنازة العلاقة التي ربطته يوما بالحبيب – سواء أكان بشراً أو وطناً أو موطناً للقلب. ثم تتبلور الأغنية انطلاقاً من ذلك الألم الشخصي، الألم الذي لا يعرفه إلا ثلاثة: الموسيقي؛ والآلة التي يعزف عليها؛ وثالثهما الله الذي يشهد عليهما. يتمخض الإبداع عن لحظة شخصية جداً، لا يعرفها أحد... لأنها ليست مجرد لحظة وقوف على الأطلال، بل هي لحظة تكوين يختلط فيها الإبداع مع الألم؛ لحظة اتصال الموسيقي بالروح وتحويل معاناته إلى لحن من الوجدان وكلمة من القلب، تنبض من الوادي السحيق الذي شرخته الأيام، من الذكريات والآهات المكتومة، من أماكن وزوايا في الروح لا تتكشف إلا من خلال لحظة الإبداع؛ لأن الحياة اليومية تكبح البوح، وتفضل لغة النسيان والأقنعة.

هذه الحالة العميقة من التأمل والوحدة لا يدخلها شخص يكتب كلمات لأغان مثل "بوس الواوا" ولذلك تترفع النفس الإنسانية المعقدة (إيجاباً و سلباً) عن التفاهم مع أغان على مستوى سطحي مخجل - إذا استطاعت - وكثيراً ما تقع فيه، خصوصاً لدى الشباب المفتقر للوعي أو النضج. أتتساوى لدى الإنسان العظيم المحترم لذاته ولذائقته الفنية كلمات "أعطني الناي وغني فالغنى سر الوجود" – وهو حقاً سر الوجود – مع كلمات وألحان الهبوط النفسي المفزع الذي وصلته صناعة الموسيقى في الوطن العربي في الخمس إلى عشر سنوات الماضية؟

الموسيقي الحقيقي صاحب الرسالة والأفق يجلس وحده ليسمح لقطعته الموسيقية أن تتبلور وتنضج تحت نار تغير الحال، فدوام الحال من المحال، والموسيقي لا يبقى دائماً في حالة استحضار لروح المعاناة التي تجول في داخله، لأنه عندما يتغير المزاج ويرتدي حالا أكثر خفة يراجع الموسيقي اللحن الذي تمخض عن أمس معذب وحينها تتلقى الأغنية الرتوش الأخيرة لتصبح أغنية واضحة المعالم. وقد يختار الموسيقي أن يشارك بعض أصدقائه نتاج معاناته الخاصة فيغني الأغاني لهم، وقد يتلقى تشجيعاً كي يقوم بغنائها أمام جمهور أكبر، وقد تؤثر أغانيه في متلقيها؛ لأن لغة القلوب واحدة ولو اختلفت أسماء حامليها.

ويأتي يوم ثالث، فيقدم الموسيقي فيه مقطوعاته الموسيقية أمام الجمهور، وقد يلقى الترحاب أو الاستحسان، وربما ينطلق من هناك في رحلة تأدية معزوفاته أمام آخرين لتتحول بذلك معاناته الشخصية إلى فن يشارك الآخرين فيه، ويحرك فيه الأفئدة والعقول، فإما أن يأخذهم إلى سماء عالية من التأمل أو إلى حماس عظيم للتغيير الاجتماعي أو إلى لحظة تتكشف فيها للذات حقائق روحية شفافة كثيراً ما نجحت الموسيقى الصوفية في تحقيقها.

ولكن هناك متلقين للموسيقى ممن وقعوا في براثن السطحية والالتفات إلى التفاهات وممن يعانون، بشكل عام، من عقدة عجيبة تؤهلهم لسماع أسخف ما سمعته الأذن منذ فجر البشرية، وفي الوقت نفسه تسمح لهم اعتبار ما يسمعون "حراما" يدخل أصحابه النار، وهم عادة لا يفقهون شيئاً في الموسيقى و يعتبرونها نوعاً من أنواع "الفلتان" الخلقي بسبب التكييف الاجتماعي الذي يتعرضون إليه في المدرسة والجامعة والعمل، ونشأتهم في أجواء تنساق وراء أفكار المدرسة الفكرية المعادية للموسيقى، وهؤلاء بالذات قد يستمتعون بكل ما انحدر من الأنواع الاستعراضية من قبل مؤديات (يتم تسميتهن خطأ بالفنانات) ممن لا يمتن بصلة لا بالإبداع ولا بالفن الأصيل. وهذه الحالة وللأسف تتفشى بين المنتجين، ومديري الأعمال، وأصحاب رؤوس المال الذين يتحلون بقدر قليل من الاحترافية والمهنية من جهة والرؤية الموسيقية المتقدمة التي من الممكن أن تنهض بالأمة التي قد أضحت في سبات عميق بسبب تفشي أنواع "الفن" الرخيص على المستوى الجماهيري.

هنالك حاجة ماسة للتوعية الجماهيرية من أجل تثقيف الأطفال والمراهقين على الأخص بالفروقات الموسيقية والفنية التي تميز الهابط عن الروحاني العالي... هذا إذا أردنا جيلاً عظيماً تهتز له الأرض من عمق معرفته وقوة روحه، أما إذا أردنا أن نبقى على المنحدر الذي سيودي بنا حتماً إلى التهلكة، فلنستمر إذاً بتشجيع فن هذه الأيام من خلال السماح له بأن يدخل بيوتنا، وآذاننا، ونفوسنا، ويدمر فينا ما تبقى من عظمة وجمال.

• مغنية ومؤلفة موسيقية من الأردن

الموسيقى والجدل الجديد: بين الهابط والروحاني العالي – ربى صقر
 
15-Nov-2007
 
العدد 2