العدد 13 - كتاب
 

رغم بلوغه الثمانين ورغم مرضه فإن يوسف شاهين عبر فيلمه الأخير "هي فوضى" يبدو وكأنه مصر على صنع الأفلام حتى آخر لحظة من حياته، وهو أمر يثير الإعجاب ولا شك.

ويزداد الإعجاب لدى مشاهدتنا لهذا الفيلم السياسي في العمق والذي يحاول أن يقدم المشهد المصري السياسي والاجتماعي بكل سلبياته وإشاراته الخطيرة التي تنبئ بما وصل إليه حال المجتمع المصري في هذه الأيام من تدهور وفساد خاصة أن الفساد هنا يقوم به ضابط شرطة يفترض أنه يحمي القانون لا أن يخرقه بكل الوسائل.

وإذا كان صحيحاً أن تلميذ يوسف ومساعده خالد يوسف قد قام ميدانياً بعمل الفيلم، إلا أن الرؤية والتوجيه والفكرة هي ليوسف شاهين والذي يعتبر أن السينما هي سلاح فعال لكشف التجاوزات على حقوق الإنسان... إذ أن حاتم ضابط الشرطة يقوم بالاعتداء على حقوق الناس في الحي الشعبي (شبرا) والذي من المفترض أن يقوم بوقف التجاوزات فيه، لا أن يقوم بخرقها في كل مناسبة، وتكتمل دائرة الفساد عندما نعرف أن هذا الضابط أو أمين الشرطة محميّ من رؤسائه الفاسدين بدورهم (يقوم بالدور خالد صالح).

حاميها حراميها إذن – وعندما يصل الوضع إلى هذه الدرجة فإن السوس يكون قد وصل إلى العظم وعندما يصبح كل شيء متوقعاً بما في ذلك الانتفاضة التي يرهص .... الفيلم بوقوعها والتي سبقتها. كما رأينا في الفيلم، انتفاضة محلية على مستوى الحي الشجي حيث توجه المواطنون إلى مخفر الشرطة حيث اقتحموه.

أما حاتم، أمين الشرطة – لماذا هذا الاسم الذي يوحي بالكرم، لماذا اسمه الكامل والذي يقال خطفا في نهاية الفيلم "حاتم عبد الناصر" فهل أراد شاهين الإشكالي أن يقول بأنه من الممكن أن يكون اسم المرء حاتم عبد الناصر ويكون فاسداً في الوقت نفسه!

حاتم لا يقدم كشخصية نمطية ذات بُعد واحد ينطوي على القسوة وانعدام الإحساس، وإنما هو شخصية مركبة ذات أبعاد طريفة أحياناً. فهو منذ البداية يرفع شعار "اللي ما لوش خير في حاتم ما لوش خير في مصر" فكأنه يمثل مصر كلها وهذه سخرية بليغة تعرّف بهذه الشخصية منذ البداية.. وهو مرتش أيضاً وبشكل مكشوف، إذ بينما كان يلتهم عدداً ضخماً من الساندويتشات في أحد المطاعم نرى صفاً طويلاً من المواطنين يدفعون له الرشاوى واحداً وراء الآخر حتى يقوم بتسليك معاملاتهم – وهو يقوم بضرب المحتجزين في قبو المخفر بسبب وبدون سبب إضافة إلى تنكيله الواضح وتجبره مع النساء اللواتي يتم جمعهن بواسطة شرطة الآداب.. وهكذا.

نلمس أن هناك نوعاً من المجزرة تحدث في قبو قسم الشرطة الذي يعمل فيه حاتم حيث يتم انتهاك حقوق الإنسان بشكل فظ وسافر ... (على كل حال فإن هذا يحدث في جميع المخافر العربية ومصر ليست استثناء) – كل هذه التجاوزات يرتكبها حاتم بشكل عادي جداً ولكن لحاتم نقطة ضعف خطيرة تقوده إلى الهلاك في نهاية المطاف وهو حبه اليائس لبنت الجيران (منة شلبي) التي تسكن مع والدتها الأرملة مقابل بيت حاتم – حاتم يحب هذه الفتاة ويشتهيها بجنون إلى درجة أن يستغل غيابها مع أمها عن البيت فيقتحم غرفة نومها ويتمدد في سريرها متشمماً ملابسها الداخلية بهيام ضمن طقس من الحب الفتيشي المؤلم، وهو يحرص قبل مغادرة غرفة نومها على أخذ بعض ملابسها وإحدى صورها التي يأخذها لأحد المصورين حيث يبتزه أيضاً مطالباً إياه بعمل صورة بالحجم الطبيعي للفتاة مركباً رأسها على جسد إمرأة شبه عارية حيث يلعق الصورة أمامه في غرفة نومه ويأخذ بالتحديق فيها بشهوة فيما يشرب الكحول وهو لا يتورع ايضا (و هو الإنسان البسيط في أعماقه ) بالاستعانة بأحد المشعوذين الذي يزوده بزجاجة مليئة بماء مسحور كما أخبره المشعوذ ليرشها أمام باب منزل الفتاة و التي أكد له المشعوذ أن عواطفها ستتغير نحوه بسرعة خارقة .

الفتاة تصده ولا تطيقه ولكنه يزداد إصراراً فكيف ترفضه وهو الآمر الناهي في الحي... ويزداد إصراره عندما يعرف أنها تحب ابن مدرستها العزيزة (هاله صدقي) الشاب الوسيم الذي يعمل وكيلاً للنيابة ولكنه شاب شريف يحترم القانون ويحافظ عليه، فكأننا أمام رجلين مكلفين بتطبيق القانون رسمياً – أحدهما فاسد والآخر شريف – فكان يوسف شاهين يريد أن يرسم لوحة بأكثر من لون وليس بالأبيض والأسود.

وفي النهاية يصل اليأس إلى مداه مع حاتم وحبه اليائس فيقرر الانتقام من الفتاة حيث يستدرجها إلى مكان ناء خلال عيد شم النسيم حيث يغتصبها بفظاظة – ولكن إصرار حبيبها وكيل النيابة وبمعاونة شعبية يتم الكشف عن الحقيقة بعد أن حاول حاتم ورؤسائه الفاسدون التمويه على جريمته مخفين كافة الأدلة بما في ذلك المتهم الذي ساعده في تنفيذ جريمته... وهنا في ذروة الصراع بين حاتم ورؤسائه الفاسدين وبين إصرار حبيبها الشاب مع والدتها ووالدته وأهل الحي يقوم أعداد كبيرة من الحي بالزحف الغاضب نحو مركز الشرطة حيث يضطر المسؤول إلى الإعلان عن حاتم مجرماً مطلوباً حيث تتم مطاردة يحاصره فيها سكان الحي تنتهي بالقبض عليه، لكنه في هذه اللحظة يستدير ويطلق النار من مسدسه على غريمه وكيل النيابة الشاب حيث يصيبه في كتفه كما يبدو لأن الشاب يقول للمصدومين الذين يحيطون به بأنه في حال جيدة رغم الإصابة وهنا ينتهي الفيلم تاركاً العديد من الأسئلة المعلقة أحدها يتعلق بموقف الشاب وكيل النيابة وفيما اذا كان سيمضي في إجراءات الزواج بالفتاة المغتصبة أم أنه سيتراجع رغم أن الانطباع الذي أثاره بسلوكه عموماً أشار إلى أنه سيتجاوز مسألة اغتصابها باعتبارها ضحية. و يمكن إيراد الملاحظات التالية:

- يواصل شاهين في هذا الفيلم تقليداً استخدمه في أكثر من فيلم سابق وهو نفض الغبار عن عدد من الممثلين الذين أوقعهم المخرجون السابقون في شخصيات نمطية لم يستطيعوا الخروج منها. هنا في هذا الفيلم ينفض الغبار ويعيد انتاج الممثلة هالة فاخر والتي ظلت تؤدي أدواراً كوميدية تهريجية في الأفلام التي ظهرت بها. في هذا الفيلم يحولها شاهين إلى ممثلة مقتدرة تقوم بدور الأم القوية التي تقف بقوة في وجه حاتم – ولكن طبعاً إلى حد معين لأنها تدرك أن خصمها هو الحكومة فلا نستطيع الذهاب بعيداً في خصومتها.

- اختفى في هذا الفيلم الجانب المتحذلق "الاستفزازي" سواء في زاوية التصوير أو في لغة أجساد الممثلين أو حواراتهم في أفلام شاهين عموماً. كما اختفى ذلك الحرص من شاهين على إبراز بعض أجساد الرجال والذي كان شاهين حريصاً عليه في العديد من أفلامه – ولعل هذا يعود إلى أن مخرج الفيلم ميدانياً كان تلميذه ومساعده المخرج خالد يوسف الذي يبدو أنه لا يشاطر أسـتاذه شطحاته واستيهاماته الفنية والجنسيـة لحسن الحظ.

وأخيراً نقول بأننا أمام فيلم قوي.. جاد.. سياسي.. يعيد مجدداً مفهوم الالتزام في السينما وفي الفن عموماً وهو المفهوم الذي تم اغتياله في العقدين الأخيرين تماماً.

رسمي أبو علي:“هي فوضى” الفيلم الأخير ليوسف شاهين، صرخة تحذيرية أم إرهاص .. بانتفاضة مقبلة؟
 
14-Feb-2008
 
العدد 13