العدد 13 - بورتريه
 

خالد ابو الخير

إرثه كبير ، يفاخر به، لكن دأبه هو العمل والانجاز في الطريق المغاير الذي اختطه لنفسه.

أبوه منيف الرزاز المفكر القومي البارز صاحب كتاب «التجربة المرة»، وأحد آباء حزب «البعث» . شقيقه مؤنس، الأديب والروائي الذي كتب عدة روايات اشار فيها الى القبضة الحديدية لبعث العراق، وما بينهما يقع عمرالرزاز الاقتصادي اللامع الذي يجمع بين التوقد العقلي وعصارة الأدب.

تدرج منذ الطفولة في مدارج المأساة بمواصفاتها الإغريقية، مع نكهة عربية لا يخطئها القمع، متنقلا بين عمان ودمشق وبغداد وبيروت، ومعانيا هاجس فقدان الأب جراء اعتقاله أو اختفائه بحكم طبيعة العمل السري، وأخيراً موته المفاجئ وهو حبيس إقامة جبرية بأمر من الرئيس العراقي السابق صدام حسين.

رأى عمرالنور في عمان عام 1961، وفي شوارع اللويبدة وحاراتها وبيت جده ومدرسة تراسنطة، حيث درس حتى الثانوية، وترك هناك أجمل ذكرياته ، من ضمنها حب أول ما زال أسير تلك الدروب.

في طفولته الباكرة كان سعيدا بوجود الوالد الى جواره، يداعبه ويقرأ له سطورا من قصص أمجاد العرب في غابر الأزمان، وأبرزها «سيف بن ذي يزن».. لم يكن يدرك أن أباه باق بجواره بحكم الضرورة، فقد كان رهن الإقامة الجبرية. «عندما كبرت أدركت أن أبي كان تحت ضغوط نفسية وسياسية هائلة وأن الإقامة الجبرية لم تكن إجازة وأن المنافي ليست سياحة».

كثيرون جادلوا بعد وفاة الأب ، أن الأخ مؤنس أخذ مكانه كـ "أب" بالنسبة لعمر، وربما كان في ذلك بعض الصواب،غير أن مخطوطة نادرة لمؤنس بخط اليد لم تنشر من قبل، تفصح عن العلاقة بين الشقيقين:

«لعب عمر دوراً عجائبيا في حياتي، لا دور الشقيق التقليدي، وانما دور الأب والابن معاً كيف؟ كان عمر في واحدة من تجليات علاقتنا عنصر المناعة الصلبة في عمودي الفقري. يصغرني بعشر سنوات، فهو بمنزلة ابني بهذا القياس، لكنه لعب دور الأب المسؤول عن ابنه الطائش غير المتزن «أنا» منذ وقت مبكر».

«كان شقيقي عمر- ابي وابني- نقيضي الذي يكملني، هو الأقرب لمزاج أبي وطبيعته. في كيميائه اعتدال وفي تركيبه توازن. ولعله كان يحسب مجازفاته بدقة، لم يعرفها أبي، ويسيطر على مغامراته بإحكام».

أنهى عمر دراسته الثانوية في عمان، وقد طمح للدراسة في الجامعة الاميركية في بيروت، في الوقت الذي أصبح فيه والده الأمين العام المساعد لحزب البعث العربي الاشتراكي، وقد استدعاه الأب إلى بغداد « عاصمة الحزب»، ليفاجأ هناك بالاستقبال «الرئاسي» له، فقد صعد ضابط عراقي الى الطائرة التي اقلته من عمان ومنع الركاب من النزول، باستثناء «الأستاذ عمر الرزاز»، الذي كان في التاسعة عشرة من عمره، وتمت استضافته في مقصورة الشرف، لتقله بعد استراحة قصيرة سيارة ليموزين الى منزل العائلة. السلطة لم تغو الفتى الذي لا تستوقفه القشور والزخارف، ويجهد أن يبحث في العمق، خصوصا عندما ذهب الى زيارة جامعة بغداد، ووجد رئيس الجامعة بانتظاره على الباب، بكامل قيافته وحتى بربطة عنقه، والجو قائظ لا يرحم. يناديه بلقب «استاذ عمر».

لم ينه دراسته في الجامعة الأميركية في بيروت، فقد اجتاحت اسرائيل أول عاصمة عربية في العام 1982، فعاد إلى الوطن لفترة قصيرة،فيما الأهل في بغداد رهن الاقامة الجبرية، ، ليشد الرحال إلى الولايات المتحدة دارسا في تخصص الاقتصاد الذي اختاره، والتحق بجامعة لويزيانا التي حصل منها على شهادة البكالوريوس ثم الماجستير من جامعة «الام أي تي» والدكتوراه من هارفارد، أرقى الجامعتين الاميركيتين.

عن سفره يقول: «افتخر بإرث اسرتي، وهو إرث لا اسمح لنفسي باستنزافه، لذلك كان أحد اسباب ابتعادي عن الاردن انني اردت اكتشاف قدراتي الشخصية خارج هذا الارث».

طال الاغتراب بعمر في سنوات الدراسة والعمل لدى البنك الدولي، وحيث كانت محطته الاخيرة في بيروت، مديرا لمكتب البنك الدولي فيها، وكان قد اقترب من سن الخامسة والأربعين.. ففكر بالعودة.. ولطالما حاول العودة لكن السفر ظل دائما يقوده الى سفر. حينها كانت الحكومة أعلنت عن وظيفة مدير الضمان الاجتماعي، فتقدم للوظيفة يسكنه الحنين الى عمان، وملاعب الصبا في اللويبدة وحميمية الاهل والأصحاب القدماء. مدركا انه اذا لم يرجع الان، بعد 25 عاما من الغياب، فسيفقد القدرة على العودة للمساهمة في مسيرة بلده، إلا متقاعدا. وكان يشك بأن يكون له نصيب في هذا المنصب، رغم أهليته له، لأنه لم يكن يعرف أحداً من المسؤولين وأصحاب القرار وواسطته الوحيدة اسمه وخبراته.

حين علم أن اسمه بات ضمن 12 اسما يتنافسون على المنصب، بدأ الاتصال بينه وبين حكومة معروف البخيت. وعمد البنك الدولي لمضاعفة راتبه متمسكا به، وحتى الان يقول مسؤولو البنك ان موقع عمر الرزاز ما زال بانتظاره، وفي أي وقت.

يتميز عمر الرزاز كاقتصادي، بطرحه الذي لا يخلو من مضمون اجتماعي متقدم. ويشهد له موظفوه "بأنه ذكي وعاقل ودارس جيد"، ويروون انه ابتعد عن الإعلام والسياسة وأغلق بابه على نفسه لمدة ستة اشهر لكي يلم بموقعه، الذي هو أصلا مؤهل له.

من صفاته بحسب مقربين، استقرار المزاج أكثر من اللازم،فقد علمته الحياة بظروفها الصعبة التي توالت عليه، أن يمسك اعصابه. ومنها ايضا عشقه الدائم للتحدي ، لدرجة أنه وعائلته يشعران بالحاجة الى شيء من الرتابة والاستقرار. ويلحظ بسخرية مريرة «أنهم لطالما وهم أطفال لاموا الوالد على حياته المتقلبة، لكنهم اكتشفوا انه ترك فيهم الرغبة في خوض غمار الحياة».

من صفاته أنه قاريء جيد للأدب، أول كتاب قرأه كان لمؤنس « مد اللسان الصغير في وجه العالم الكبير»، يقول عنه أنه «أذهله ، إذ رأى فيه معاناة أخيه واستطاع ان يتحسس فيه كل معنى وكلمة». أما الكتاب الذي أثر فيه فهو "النمور في اليوم العاشر" لزكريا تامر، الذي تعرض لمفهوم الترويض، وتعلم منه «أن على الانسان الحذر من الترويض ليقبل بشروط تحد من حريته وتهشم بوصلته الداخلية، وتكون غير مرضية لإنسانيته، فيصبح مثل تلك النمور التي اكلت العشب في النهاية».

لعمر ابنان: آية وطارق، ولعلها محض مصادفة أنه يقرأ لهما أحيانا بعضا مما كتبه مؤنس للاطفال، وشذراً من قصص أمجاد العرب القدماء. وتحديدا "سيف بن ذي يزن".

الرزاز: اللويبدة، البعث، البنك الدولي والإيقاع المنضبط
 
14-Feb-2008
 
العدد 13