العدد 12 - اقليمي
 

بدأ جورج حبش حياته السياسية في عمان قبل أكثر من نصف من قرن، وأنهى حياته فيها بين عائلته قيل أيام .قد لا يجد البعض دلالات موحية في هذا الأمر وربما اعتبر آخرون المسألة منذ البدء وحتى الختام مجرد سلسلة من مصادفات. غير أن المسيرة الطويلة لـ «ابو الراديكالية» الفلسطينية ، تحمل مفارقة دالة بين ما تحمله من مفارقات، وهي أن عاصمة المملكة الهاشمية تمثل محطة استراحة هي الأكثر جذبا بين محطات أخرى لقدامى المناضلين، خاصة بعد أن ذهب زمن التنازع على تمثيل الفلسطينيين، ومضت قبله خرافة جعل دولة مستقلة قائمة هانوي العرب .

في الوقت الذي تخلى فيه «حكيم الثورة» طوعياً منذ عقدين عن زعامة الجبهة الشعبية،التي أسسها قبل أربعة عقود ،ازدادات زياراته وفترات إقامته في عمان .وتواقت ذلك مع فك الارتباط الإداري القانوني بين الأردن والضفة الغربية .فغدت هناك بيئة سياسية ونفسية ملائمة لكي يتم استقبال الحكيم، الذي أخذ يكثر من تردده على عمان وطالت فترات نقاهته فيها .

بهذا تحولت عمان إلى حاجة للاستراحة وضرورة للاستقرار، بما يعنيه ذلك من أن الاعتدال الذي تمثله عمان ورغم أي ملاحظات عليه، يلبي حاجة موضوعية ووجودية وسياسية بالتالي، كما هي الحاجة قائمة الى أشكال مختلفة من المقاومة. بينما بدت بيروت ودمشق وعدن في الأيام الخوالي، كموائل للفعل الثوري بما فيه من فرص ومن استيهامات وجموح، وما أفضى النشاط فيها لاحقاً لإدراك متأخر بعض الشيء، للخصوصية السياسية والاجتماعية لتلك العواصم، التي حدت في النتيجة من آفاق العمل الكفاحي وكبحته .

بين أقرانه في قيادة التنظيم كان الراحل الكبير يقود تيارا «جذريا» مقارنة بتيار خليفته الشهيد أبو علي مصطفى الذي عاد عقب توقيع اتفاقية اوسلو، خاصة أن الأخير من أبناء الضفة الغربية ( بلدة قباطية في محافظة نابلس) .قضى أبوعلي قبل عشر سنوات شهيدا بصاروخين استهدفا مكتبه في رام الله .لقد سمحت له سلطات الاحتلال على مضض شديد بالعودة الى وطنه ، فيما قبلت الجبهة الشعبية آنذاك وحتى يوم الناس هذا، وعلى مضض أيضاً بنتائج عملية اوسلو .

الحكيم لم يعد مع العائدين من كوادر منظمة التحرير.فقد ظل يعتبر عودته إلى مسقط رأسه اللد لا إلى الضفة الغربية أو قطاع غزة ،معياراً لنجاعة أية عملية سلمية. لم يكن ممكناً بدء العملية من نهاياتها بفتح ملف عودة اللاجئين فاختار الحكيم «المنفى».وبالتأكيد لم تكن عمان منفى، ففيها ملعب صباه وشبابه والصداقات الأولى، وفيها التوأمة والاندماج بين شعبين بعناوين مشتركة وحتى واحدة، إضافة إلى بداية حياته المهنية طبيباً، كما هو حال آخرين من أطباء راديكاليين مثل منيف الرزاز ويعقوب زيادين. علاوة على ذكريات ليست بهيجة يستعيدها الحكيم ويستذكرها أردنيون كثر تتعلق بمأساة أيلول 1970حيث كان الحكيم مطلوباً للسلطات آنذاك ،وحيث ساد المنطق الاستعمالي للأردن كساحة لا وطنا لأبنائه ودولة مستقلة وسيدة .

ولا بد بعدئذ أن الحكيم قد توقف في سنواته الأخيرة أمام ما يمكن احتسابه إخفاقًا تاريخيًا، للاتجاه «الجذري» في الحركة الوطنية الفلسطينية .لقد «خطف» أصوليون تمثلهم حماس الراية في ما يشبه الغفلة من تيار تاريخي، تمثله الجبهة الشعبية أساسا إلى جانب يساريين وقوميين غير مؤطرين. تم ذلك لأن التيارات الثورية لم تحفر عميقا في الوعي السائد، ولم يقترن لديها التثوير بالتنوير إلا بصورة متقطعة وعلى السطح (خلافاً لما تشتمل عليه النظرية الثورية العلمية). بقيت الثقافة السائدة في النتيجة على حالها، فأمكن لأشد الاتجاهات محافظة في المجتمع في غزة بالذات، أن تستولي على الخزان الثوري (الجماهيري ) وتعيد شحنه وتعبئته بمقولاتها وأجندتها، وتتقدم بصفتها وحسب تصنيفها الذاتي بديلاً عن الماضي الوطني والحاضر السياسي، وأنها برؤيتها النكوصية وإنكارها للتعددية السياسية والثقافية والاجتماعية، واستلحاقها بالخارج هي التي تمثل المستقبل! علماً أن للجبهة الشعبية حضوراً وجذوراً تاريخية في القطاع.وبالتالي فإن صعود حماس مثل تحدياً لـ “الشعبية” قبل سواها وأكثر من غيره. وهو ما يفسر عمليات التنكيل التي لحقت بالشعبية في عهد حماس الميمون.

يبقى أن رحيل جورج حبش يمثل خسارة كبيرة، فهو بحق رمز تاريخي بعلمانيته ووطنيته ونزوعه القومي الجارف رغم تمركسه، وصاحب شمائل شخصية رفيعة، وبالذات في رفضه للاحتراب والتزامه الأصيل بالوحدة الوطنية والاستقلالية التي ترفض الاستلحاق، ومواجهة المنطق العدمي والتدميري في النتيجة، وذلك بالدعوة للبدء من الصفر كما يبشر أركان حماس. قيل إن الحكيم عكف بين عمان ودمشق،على كتابة مذكراته في سنوات استراحته غير القصيرة.لعله أوصى بنشرها ولعل أسرته تدفع بها إلى النشر بعد رحيله. فلا شك أن مثل هذه المذكرات إذا تضمنت وقفة مع الذات ومع الوقائع وجملة التحولات، سوف تضيء جوانب من مسيرته الحافلة في محطات عديدة .

 

 

 

محمود الريماوي

الراحل حبش : إلى اللد وإن طال المسير..
 
07-Feb-2008
 
العدد 12