العدد 2 - اقليمي
 

لم يحفل المصريون ب " باب الحارة " و" نمر بن عدوان " في رمضان الماضي، انصرفوا إلى " الملك فاروق "، من باب الفضول أولا، وربما لاختبار قدرة ممثل ومخرج سوريين على اتقان مسلسل تلفزيوني ينشغل بأحد حكامهم، وثالثا لتزجية الأمسيات الرمضانية ليس إلا، غير أن المصريين وجدوا أنفسهم أمام سؤال عن حقيقة الملك ونظامه الذي قامت ثورة يوليو في 1952 أساسا ضده . ولمّا تتوقف بعد كتابات في الصحافة المصرية، يفاضل كثير منها بين عهدي الملكية والثورة، وبين نظامي فاروق وحسني مبارك، وأحيانا بين الرجلين نفسيهما ( ! ) . وتقارن بين مقادير الفساد في ذلك الزمان الذي صار عاديا وصفه بأنه جميل، ومقاديره في الزمان الراهن الذي يُرمى بأنه شنيع .

ولأن للتلفزيون في هذه اللحظة العربية التي تنحسر فيها القراءة نفوذه الكبير على المدارك والأمزجة والقناعات، ليس مستغرباً أن الفتية في المدارس المصرية صاروا يسألون عن الذي كان في " العهد البائد " قبل الثورة التي يدرسون أهدافها في المناهج . وعلى ذمة تقارير صحافية لها موثوقيتها فإن شيئا من الصدمة يحدث على هذا الصعيد، حيث صارت الأسئلة عن الملك فاروق، السكير العابث الفاسد، ما إذا كان حقّا يحب بلده ووطنيا ولديه مشاعر حانية . وفي هذا السياق، يستنفر المسلسل الذي دوّى نجاحه في مصر رغبة كبيرة في القراءة عن مرحلة بالغة الإثارة بشأن حزب الوفد والقصر الملكي والمحتل الإنجليزي، وعن حيوية المشهد العام الذي كان للأحزاب والأزهر والباشوات والإقطاع والفنانين والصحافة فاعليتهم في أثنائه، وعن تحبيذ الملك انتصار الألمان في الحرب العالمية الثانية ، وحرصه على المشاركة في حرب من أجل إنقاذ فلسطين .

أشعل العمل أمام الشباب المصري، وربما بعض العربي، الرغبة في التعرف جيّدا إلى تلك الوقائع وغيرها، وإلى فاروق الذي كتب محمد حسنين هيكل عنه قبل أعوام أنه كان وطنيّا مصريّا، وحتى عندما غرق لاحقا في مستنقع من الفساد زاد وفاض على ما حوله ظلت وطنيته سليمة في تعبيرها عن نفسها . وإذا كان حقّا لكل من شاهد المسلسل، التجاري أولا وأخيرا بدلالة تضمنه قصص زيجات وخيانات وحب ومؤامرات ومطاردات وتجسس وغيرها، أن يرى ما يشاء من النقد والانتقاد، فإن من مؤاخذات بعضهم الطريفة عليه أنه منجز سعودي قصد منه، ما يحيل بحسبهم إلى إدانة الثورة المصرية وجمال عبد الناصر تحديدا . وذهب الصديق موفق محادين في ندوة في رابطة الكتاب الأردنيين في عمّان قبل أيام إلى أبعد، وقال أن المسلسـل ليس بعيدا عن مشروع صهيوني أمريــكي نفــطي لشطب الذاكرة العربية ( ! ) .

ربما يجد أصحاب مثل هذا القول ما يسانده في أن محلات بيع المقتنيات النادرة في القاهرة تشهد حاليا إقبالا واسعا على شراء صور فاروق، وصارت تطبع له صور شعبية رخيصة لتلبية طلبات عديدة عليها، فيما الأثرياء يطلبون صوراً أصلية من المطبوعة في الأربعينيات . والأوجب أن يقال لأولئك أن في الذاكرة العربية أوهام وخرافات وأكاذيب تحتاج إلى " ثورات تصحيحية" .

وبعيدا عن قول ( أو زعم ؟ ) كاتبة " الملك فاروق " لميس جابر أنها قامت بعمل وطني، وعن أخطاء ليست هيّنة في عملها، خصوصا بشأن وقائع ما قبل الثورة مباشرة، فإن المسلسل يستفزّ رغبة في اختبار البديهيات الرائجة وتمييز الحقائق من غير الحقائق . وإذ أصدرت صحف مصرية مستقلة وأخرى حزبية ملاحق خاصة عن الملك المخلوع وأسرته، دعا كتّاب فيها إلى إعادة الاعتبار لعهده، فإن المرء قد يأتي إليه أن " هوسا " عابرا ربما يحدث في مصر الآن، ستأتي حدوتة تالية تطرحه إلى الخلف، وهذا دأب الصحافة المصرية البارعة في توليد المشاغل وتوجيه الاهتمامات، بتوجيه أحيانا من دوائر استخبارية كما يقال . وأيا يكن مدى

صحة هذا، فــإن حجرا كبيرا رماه حاتم علي ولميس جابر، ومعهما تيّم الحسن وزمــلاؤه في العمل الذي اتسع الإجماع على تميّـــزه فنيا، أمام جيل عريض من المصريين، دغدغ المسلـــسل رغائب فيهم من اليسير التقاطها، وهــم يشاهدون ملكا يلبس الشورت في قصره، يــمزح ويصاحــب " شمرجية " من الأقليات، في الثلاثينــات من عمره، يشاهد ميكي مـــاوس، علاقتــه مع الخدم في قصره إنسانــية، فيما السلــطة التي بين ظهرانيهم شـــائخة، وفي كل شيء ربــــما، ووطأتها ثقيلة وليس لديها أية خفة دم .

وربما يدلل على خوف ما، في مكان ما في السلطة المذكورة، تخصيص " روز اليوسف " عددا خاصا يصيح غلافه " تحيا الجمهورية " ، يحفل بالتذكير بسوءات ما قبل ثورة يوليو، وهي المجلة التي يقال أنها قريبة من أمانة السياسات في الحزب الوطني الحاكم. يحدث هذا في مصر في أجواء ما يشبه " ثورة تصحيحية "، عنوانها وجوب إعطاء كل ذي حق حقه، ونفض ما رمي به الملك فاروق ولم يكن عليه. ويمكن أن يُرى شيء من حنين إلى ماض لم تعرفه إلا قلة، فيما المعروف من الراهن فساد ونهب كثيران، مبيدات مسرطنة ودم ملوث وغرق في عبّارات متهالكة وموت في قطارات خربانة وتسيد لوجوه مغتبطة بثرائها الفاحش، ومدائح في التلفزيون يقول مذيع في أثنائها أن الرئيس أبو المصريين وأعظم الزعماء في تاريخ مصر وصانع النصر في أكتوبر وبطل التنمية والاستقرار والديمقراطية . ... تُرى، ما الزمن الأقل فسادا وشناعة إذن ؟ .

الملك فاروق يشعل مراجعة سياسية وعاطفية – معن البياري
 
15-Nov-2007
 
العدد 2