العدد 78 - أعلام
 

عرفت الثقافة العربية، في القرنين التاسع عشر والعشرين، جهوداً فكرية متلاحقة، أخذت بتصورات حديثة، اعترفت بالعقل ووظيفته النقدية، وباختلاف أسئلة الحاضر عن الماضي، وبضرورة الانفتاح على المعارف والتجارب الإنسانية الكونية. وتطلّعت هذه الثقافة إلى حداثة عربيّة، تتأسس على الديمقراطية والمجتمع المدني والاستقلال الوطني وتحرر المرأة والحوار المجتمعي، بعيداً عن التعصب والأفكار الجاهزة.

فيصل دراج

عبد الله النديم (1845- 1896) مفكر سياسي مصري، جاء من عائلة فقيرة، ومال إلى الفن والأدب والصحافة، وتتلمذ على جمال الدين الأفغاني. غير أن ما أشهره يتمثّل في أربع وقائع: احتفاله بالصحافة الذي دفعه إلى الكتابة في صحف متعددة، قبل أن ينشئ صحيفتين واسعتَي الأثر، أغلقتهما السلطة الخديوية أكثر من مرة، هما : «التنكيت والتبكيت» العام 1881، التي جمعت بين الجديّة والسخرية والعامية والفصحى، و«الأستاذ»، التي أنشأها بعد إغلاق الأولى ولم تعمّر طويلاً. واشتراكه في الثورة العرابية (1882) اشتراكاً فاعلاً، جعله يكتب بياناتها ويخطب مدافعاً عنها ويقاتل في صفوفها، ودفع السلطة إلى الحكم عليه بالإعدام بعد إخفاقها، وإجباره على الاختفاء والاحتجاب عن الأنظار. أما البعد الثالث فجاء من قدرته على الاختفاء تسع سنوات، أو ما يقاربها، مستعيناً بقدرته على الكلام بلهجات مختلفة وبتغيير ملامحه، مستفيداً من عمله في المسرح لفترات متقطعة. جاء البعد الأخير من موته الغامض في اسطنبول، حيث دُسّ له السم، كما يقول بعضهم، بتحريض من رجل الدين السوري «أبو الهدى الصيّادي»، الذي لم يكن بعيداً عن اغتيال الشيخ السوري عبد الرحمن الكواكبي، وعن طريق السمّ أيضاً.

ربما يكون في حياة النديم ما يبرهن أن الإنسان صانعُ أقداره، وأن الفرد الطموح ينتصر على بيئته، حتى إن جافاه النصر في المآل الأخير. حين يتحدّث المؤرخ والأديب المصري الشهير أحمد أمين عن النديم يقول: «لو تنبّأ له متنبئ لقال إنه سيكون نجاراً ماهراً، فأما أديب يملأ الدنيا ويقود الرأي العام ويحسب حسابه في كل ما يخطه قلمه أو تنطق به شفتاه، فلا يدور بخلد أحد، حتى فاتح الرمل والضارب بالحصى». يحتفي القول بإرادة الإنسان الفاعل، وبأخلاق صاحب الحس السليم، الذي يحوّل قلقه الخاص إلى قلق عام، ويضع في الطرفين فعلاً مقاتلاً، يعيد صوغ المجتمع الذي يعيش فيه.

من أين صدر ذلك الغضب الخصيب، الذي جعل «صبيَ نجّارٍ» يقود الرأي العام؟ جاء من تجربة شخصية علّمته الفرق بين العدل والظلم، ومن تعاليم الأفغاني وصحبه التي قادته إلى «نوع من الأدب غير الذي كان»، وإلى نخبة ثائرة «تجد غذاءها في الصحف السياسية والمقالات النقدية».

لم يستكمل هذا الغضب عناصره إلا بعد تأمل سلطة منصرفة إلى شهواتها: «كان الخديوي غارقاً في ملذاته سائراً وراء شهوته، لا يقرّب إلى الأرذال، ولا يرفع إلاّ الأسافل..». رأى النديم إلى واقع يعبث به سادته المحليون، الذين يعبث بهم سادة أجانب، وأدرك أن معنى الوطن من إرادة الوطنيين المدافعين عنه. أوصله حسه السليم إلى القتال من أجل الاستقلال، وإلى ضرورة بناء إرادة جماعية موحدة، تحرّر الوطن من سيطرة «الأسافل والأرذال». يقول معلناً عن يقينه الأول: «وديني الذي فطرت عليه ومذهبي الذي أميل إليه هو تحرير العباد وإصلاح البلاد وإظهار مجد الدين وتأييد المؤمنين». ذهب النديم، المحصّن بوعي سياسي عملي، إلى إسلام حقيقي يجمع بين الإيمان والكرامة الإنسانية، ويوحّد المصريين ولا يفرّق بينهم، لأن استقلال الوطن نصرة للدين الحقيقي وللمدافعين عنه.

يقول موحداً بين الدين ونصرة الوطن: «إن كان هناك اعتقاد بجنة ونار فتقرّبوا إلى الله بما يدخلكم به جنته ليس ذلك إلا بالبعد عن مساعدة الأجنبي على إخوانكم». اشتق النديم الوطنية من الدين الذي يحقق العزة، مبتعداً عن ممارسات تنتمي إلى الدين وتفقر مضمونه: «ولكننا نحب أن تزداد علاقات الوطنية بعقد جمعية مصرية موضوعها البحث في الوطن وخصائصه وواجباته وضروريات حياته...»، تغاير «الجمعية الإسلامية والجمعية القبطية، اللتين لا تَعَلُّقَ لكل منهما بما نحن في صدده، فإنهما جمعيتا إعانة وتربية أيتام..».

اشتق النديم الوطنية من الدين ووضع، بلا تناقض، الرابطة الوطنية فوق الرابطة الدينية، ما دام أن الإرادة الوطنية الجماعية طريق إلى مواجهة الذل وتحقيق الاستقلال الوطني. قال في هذا المجال: «إن عز الاستقلال بالوطنية خير من الإذلال بجامعة الدين...». أطلق قوله الواضح في اتجاهين: التنديد بالنزوعات الطائفية التي تجعل المسلم المصري يرفض نظيره القبطي، وتقنع الأخير بالاقتراب من الإنجليزي والنفور من أبناء وطنه، ناسياً أن الاستعمار يستخدم الأديان ويقدس المصالح.

ولعل انصراف النديم إلى المصلحة الوطنية والروابط الوطنية، هو ما دعاه إلى الدفاع عن سلامة اللغة العربية، وهجاء التفرنج، والتنبيه إلى ضرورة حماية الصناعة الوطنية. يشير إلى الفساد اللغوي قائلاً: «إن الدخيل من لغة الغير مفسد للغة، يحوّل أهلها عن طبائعهم ومألوفهم إلى طباع اللغة التي ينتقلون إليها ومألوفاتها...».

لاحظ «خطيب الثورة العرابية»، مبكراً، أن اللغة عنصر أساسي من عناصر الشخصية الوطنية، وأن شكل التفكير لا ينفصل عن اللغة التي تعبّر عنه، وأن التساهل في حماية اللغة العربية، في شرط استعماري، يفصح عن التساهل في أمور أخرى. ولهذا ساط بقلمه اللاذع المتفرنجين ودعاة التفرنج، ذلك أن المتفرنج يمسخ شخصيته محاولاً التشبه بآخر مختلف عنه، ويزداد الأمر مأساوية حين يكون الآخر مستعِمراً.

تتكشّف مأساة التفرنج في استعارة المظاهر الخارجية، مثل اللباس واللغة وبعض الممارسات الاجتماعية، والافتقار إلى التاريخ الاجتماعي-الثقافي الذي أنتج صورة المتشبّه به. وإذا كان في اللغة الأجنبية المستعارة ما يفصح عن استخفاف باللغة القومية وبالثقافة التي تحايثها، فإن في الممارسات الاجتماعية المستعارة ما يدفع إلى التبعية في الذوق والاستهلاك وإضعاف الإنتاج الوطني. يقول النديم: «إن المحسنات المعيشية تألفها النفس، ولكن الإسراف فيها والتهالك عليها يقتل الصناعة المحلية ويزيد في نفقات الحياة، فتضيع الثروة القومية وتذهب إلى يد الأجنبي، وتموت الصناعات الوطنية ويكثر المتعطلون..». تدعم تبعية الاستهلاك مزاعم الأوروبي المستعمِر، الذي يربط الصناعة بذاته المتفوقة، ويوكل إلى المستعمَر الأعمال اليدوية البسيطة : «قالت أوروبا إنكم متوحشون، وإنكم في حاجة إلى مصنوعنا،...، كما لو كان الشرقيون أُجَراء يزرعون ويحصدون، كأنهم أمام أوروبا جنس خُلق لخدمتها، ومما زادهم بعداً عن الصناعة الوطنية وثمراتها وجود دخلاء أُجَراء يزعمون أنهم نصحاء..».

لم يختزل النديم، وهو السياسي العملي، علاقة الشرق بالغرب إلى ثنائيات مجردة، قوامها الكفر والإيمان أو المسيحية والإسلام، بل قرأ ذلك في سببية التقدم والتخلف، ولهذا طرح سؤاله الشهير: «لماذا يتقدمون ونحن على تؤخر؟». عثر على الجواب في عناصر مادية دنيوية، أولها العلم والنظر العلمي إلى العالم والخروج من الجهل ومن الاطمئنان إلى الخرافات، وثانيها تحويل الاجتهاد العلمي إلى صناعات وطنية. ربط بين العلم وتطبيقاته، وبين العلم التطبيقي والحاجات الاجتماعية، مؤكداً أن السؤال العلمي الوطني يبدأ من الحاجات الفعلية، لا من أصول الكتابة والقراءة. ولعل إيمانه بإمكانية التقدم هو الذي جعله يؤمن بكونية العقل الإنساني، فلا فروق نوعية بين البشر، وأملى عليه أن يحرّر الإسلام مما نُسب إليه من صفات، تبرّر التخلف والتقاعس عن العلم الإبداعي المنتج. فهو يقول: «بمّ تقدموا وتأخرنا والخلق واحد؟»، معلناً رفضه للقدرية والاتكال وإحالة التأخر على أسباب خارجية، دون التوقف أمام الأسباب الداخلية. فإنْ وصل إلى ما يفسر التخلّف بالدين والجغرافيا قال: «فلو كان الإسلام مانعاً للتقدم لرأينا الهند والصين في تقدم أوروبا وحالهم شاهدة بأنهم أحط من المسلمين بدرجات...». وسواء أصاب النديم في قوله أو لم يُصِب، فقد كان في قوله غيرة دينية، تدافع عن الإسلام وتطالب بإيقاظ قيمه الحقيقية، ذلك «أن الدين الإسلامي كان السبب الوحيد في المدنية وتوسيع العمران أيام كان الناس عاملين بأحكامه».

ثلاثة عناصر ميّزت الخطاب الذي جاء به عبد الله النديم: الانفتاح على المجتمع في قضاياه المشخصة ومعالجتها بوسائل حديثة تتضمن الصحيفة والحزب والجمعيات الثقافية والمسرح، وقراءة الماضي والحاضر والتراث والدين واللغة من وجهة نظر تقول بالصناعة الوطنية والوحدة الوطنية والعصبية الوطنية، كما لو كان الانتماء إلى الوطن هو المدخل الصحيح لقضايا الثقافة والسياسة والتعليم والزراعة... أما العنصر الثالث فيتمثّل بأولوية العمل على النظر، والفعل على القول، وعدّ الممارسة الكفاحية مدرسة واسعة، تعلم الإنسان ما توقع وما لم يتوقعه أيضاً. يقول النديم: «حتى لو كان المستعمرون قاهرين، فإن المصري سيتعلم من هذا القهر تكوين العصبية وإحياء الوطينة..».

عاش هذا المسلم التنويري، الذي رحل قبل الأوان، حياته بمعايير العزة والكرامة والتمسّك بالهوية الثقافية الوطنية الموروثة والمنفتحة على التجدد والنمو والنقد الذاتي. يقول في معرض دفاعه عن اللغة العربية: «وإذا حولنا طريقة التعليم باللغة الوطنية إلى التدريس باللغات الأجنبية أَمَتْنا قوميتنا وجنسيتنا وديننا وأصبحنا أجانب بين قومنا».

عبد الله النديم: خطيب الثورة العرابية: لماذا تَقدّموا وتأخّرْنا نحن؟
 
28-May-2009
 
العدد 78