العدد 78 - دولي
 

صلاح حزين

لم تبد كوريا الشمالية كبير اكتراث بالحملة العالمية التي انطلقت مستنكرة إجراءها تجربة نووية في الخامس والعشرين من أيار/مايو 2009، وإطلاق ثلاثة صواريخ قصيرة المدى، بل أتبعت ذلك بإطلاق صاروخين آخرين، وكأنها بذلك كانت ترد بالصراخ على الضجيج الذي أثير حول التجربة النووية وإطلاق الصواريخ الثلاثة الأولى.

وبدا واضحا أن الصراخ الأعلى كان بين بيونغيانغ وواشنطن، ففي حين أكدت واشنطن أن كوريا الشمالية سوف تدفع ثمن تحديها للمجتمع الدولي، حذرت بيونغيانغ من أن أي هجوم تفكر الولايات المتحدة في شنه عليها سوف يكون بمثابة الكارثة. واستعادت كوريا الشمالية أيام الحرب الباردة حين أعلنت سحب اعترافها بخط الهدنة بين الكوريتين، وأنها لم تعد ملزمة به، متهمة الولايات المتحدة بأنها تحاول جر كوريا الجنوبية تجاه سياسة معادية للشطر الشمالي من البلاد.

وخط الهدنة، هو الخط الذي توقف عنده القتال في الحرب الأميركية على كوريا بين 1951 و1953، وكانت أميركا بين الموقعين عليه.

لقد طغى التلاسن الحاد بين واشنطن وبيونغيانغ على “التلاسنات” الأخرى التي اندلعت بين كوريا الشمالية وأطراف أخرى مهمة في العالم، فقد حذرت كوريا الشمالية جارتها الجنوبية من أي محاولة تقوم بها، هي أو الولايات المتحدة، بإيقاف وتفتيش السفن الكورية الشمالية في منطقة بحر كوريا المتنازع عليها بين الشمال والجنوب.

وقد أتى تحذير كوريا الشمالية هذا بعد أن كانت كوريا الجنوبية قد أعلنت عن نيتها في أن تصبح عضواً كاملاً في المبادرة الأمنية لمكافحة انتشار أسلحة الدمار الشامل التي تقودها واشنطن. وتشمل المبادرة ملاحقة السفن التي يُشتبه في أنها تحمل أسلحة دمار شامل.

التلاسن شمل أيضا الأمم المتحدة التي أصدر مجلس الأمن فيها قرارا يدين بالإجماع الخطوة الكورية الشمالية، ما يعني أن كلا من روسيا والصين، وهما الحليفان الأقرب إلى بيونغيانغ، قد وافقا على إدانة مجلس الأمن للتفجير النووي الكوري.

ولم تقتصر إدانة روسيا والصين لتجربة بيونغيانغ على موافقتهما على قرار مجلس الأمن، بل تعدت ذلك إلى تصريحات على ألسنة مسؤلين في البلدين رأوا في التفجير النووي الكوري الشمالي خرقا واضحا لقرار مجلس الأمن رقم 1718، الذي اتخذ عقب تفجير نووي كانت بيونغيانغ قد قامت به العام 2006.

غير أن كل هذه الملاسنات لم تكن أكثر من دخان يخفي تحته حقيقة السبب الذي جعل بيونغيانغ تجري تفجيرها النووي وتطلق صواريخها. بحسب غزو غوانغيو، وهو خبير صيني في جمعية نزع السلاح وضبط التسلح، فإن كوريا الشمالية أرادت من إجراء تجربتها النووية أن تلفت إليها الأنظار، بعد أن تحولت الأنظار جميعا إلى إيران، التي بدأت إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما في اتخاذ خطوات عملية نحو إجراء حوار معها، فيما أهملت بيونغيانغ التي تعد المساهم الرئيسي في تطوير التجربة النووية الإيرانية.

وقد أدى ذلك بكوريا الشمالية إلى اتخاذ موقف فاتر في محادثات الدول الست، وهي: كوريا الشمالية وكوريا الجنوبية واليابان والصين وروسيا والولايات المتحدة، والتي شكلت لتحل النزاعات الناجمة عن التسلح النووي في المنطقة. وقد تطور الأمر بكوريا الشمالية حتى اتخذت قرارا بطرد المفتشين الدوليين، ما مهد الطريق أمام بيونغيانغ لكي تجري تجربتها النووية، وأن تصدر تصريحات حول العداء الأميركي لكوريا الشمالية حتى بعد مجيء أوباما “فمن الواضح أن شيئا لم يتغير في السياسة الأميركية المعادية لكوريا الشمالية، حتى في ظل الإدارة الأميركية الجديدة”، كما جاء في تعليق نشرته وكالة الأنباء الكورية الشمالية.

هذا الموقف الكوري الشمالي لم يأت جزافا، بل أتى على خلفية سياسة الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الذي قايض كوريا الشمالية على مفاعلها النووي مقابل الحصول على معونات دولية تحتاج إليها كوريا الشمالية حاجة ماسة العام 2007.

ووافقت بيونغيانغ، التي كانت العام 2006 قد أجرت تجربة لم تكن بنجاح التجربة الأخيرة، على التخلي عن برنامجها النووي مقابل تلك المساعدات. وتحسنت العلاقات بينها وبين كوريا الجنوبية، وبدت الأمور مهيأة للتحول نحو الأفضل.

ولكن إدارة الرئيس بوش بدأت في ممارسة سياسة تدخل فظ في الشؤون الكورية الشمالية، في حين تلكأت الإدارة نفسها، تحت ضغط سياسة المحافظين الجدد، في إزالة اسم كوريا الشمالية من قائمة الدول الراعية للإرهاب، وغير ذلك من خطوات حسن النية.

العام 2008 شهد السباق المحموم نحو البيت الأبيض، والذي انتهى بأوباما رئيسا للولايات المتحدة الأميركية، ما جمد كثيرا من القضايا، من بينها البرنامج النووي لكوريا الشمالية.

لكن الأمور في بيونغيانغ يبدو أنها لم تكن على ما يرام، فقد اختفى كيم يونغ إيل، ولم يظهر في عدد من المناسبات العامة، ما أعطى انطباعا بأن صحته ليست على ما يرام. وقد تزامن ذلك كله مع انتشار إشاعات عن صراعات في أروقة الحكم في كوريا الشمالية بين أولاده الثلاثة، بخاصة وأن الزعيم الكوري الشمالي بدا أنه اختار ابنه الأصغر لخلافته، ليستمر نسل صانع استقلال كوريا الشمالية، كيم إيل سونغ في الحكم، حتى لو رحل ابنه، الرئيس الحالي، من خلال حفيده.

وترددت أقوال عن أن هنالك أوساطا متنفذة في الحزب الحاكم، وكذلك في المؤسسة العسكرية القوية وذات النفوذ، ترفض تحول أسرة كيم إيل سونغ إلى أسرة حاكمة، وهو ما يعني أن صراعا على السلطة بعد رحيل متوقع للزعيم الكوري الشمالي، قد ينشب في أي لحظة.

على هذه الخلفية، بحسب بعض المراقبين للأوضاع السياسية في كوريا الشمالية، جاءت التجربة النووية الكورية لتكون انعكاسا للصراع الدائر في أروقة الحزب الحاكم في بيونغيانغ، فاستعراض القوة في الخارج، لعبة يتقنها المتصارعون في الداخل في دول مغلقة مثل كوريا الشمالية.

غير أن الفكرة الأكثر شيوعا في تفسير التجربة النووية الكورية الشمالية هي أن بيونغيانغ تشعر بالإهمال والتهميش، مع أنها في النهاية دولة نووية، وأنها لذلك قامت بما قامت به أخيرا من تحد، يصل حد الاستفزاز للرأي العام الدولي، بمن في ذلك أصدقاؤها في الصين وروسيا.

هذه الفكرة التي تكاد تكون وجهة نظر الصين الرسمية في ما قامت به كوريا الشمالية، هي الفكرة الأكثر انتشارا في التحليلات التي تناولت التجربة النووية الكورية الشمالية، وخلف هذه الفكرة تكمن الدعوات التي أطلقتها روسيا، الحليف الموثوق الثاني لكوريا الشمالية، والتي دعت فيها إلى عدم التخلي عن الحوار مع كوريا الشمالية، والتشديد على ضرورة الانتباه إلى ما يجري في تلك المنطقة التي ما زالت منطقة توتر منذ نحو ستين عاما.

بعد أن خطفت إيران الأضواء منها كوريا: السلاح النووي أداة في صراع داخلي على السلطة
 
28-May-2009
 
العدد 78