العدد 77 - ثقافي
 

عواد علي

يزدهر المسرح عندما يكون حراً، فهو بطبيعته فن جريء، سليط اللسان، يكشف عن المقموع والمسكوت عنه، ويثير تساؤلات حول قضايا لا مُفكَّر فيها أحياناً. ولذلك فهو وليد مجتمعات ديمقراطية، بل إنه في بعض المجتمعات يحل مكان البرلمان، ويتحول إلى ساحة حوار حتى لو تخفّى في أردية تاريخية أو فانتازية.

وإذا كانت ثمة تجارب تؤكد عكس ذلك، أي ازدهار المسرح في عهود الطغيان، فإنه يمكن تفسيرها بغياب الوعي، والانسياق وراء الوهم وتصديقه، والانفعال به كأنه حقيقة ثابتة‏.‏ والحياة الإنسانية لا تنبني على الحقائق وحدها‏، بل تنبني أيضاً على الأوهام والأكاذيب.

أطلق العديد من المسرحيين في العالم، منذ ولادة فن الإخراج في القرن التاسع عشر، اسم «الحر» على فرقهم وجماعاتهم المسرحية، تعبيراً عن تشبثهم بحرية المسرح من جهة، ورغبةً في التحرر من التقاليد والأعراف المسرحية السائدة، وفي الاستقلال عن المؤسسات الرسمية من جهة أخرى. وكان المخرج الفرنسي أندريه أنطوان، أول من أسس فرقةً بهذا الاسم في باريس العام 1887، وعرض خلال عمله القصير أكثر من مئة مسرحية جديدة، وكان كل عرض منها يتضمن مسرحيتين أو ثلاثاً، وأسهم في إطلاق شهرة مؤلفين، أمثال السويدي أوغست سترندبرغ (عرضَ له مسرحية «الآنسة جولي»)، والنرويجي هنريك إبسن (عرض له مسرحيتَي «الأشباح»، و«البطة البرية»). وانتهج أنطوان في إدارته للفرقة سياسة اكتشاف الكتّاب المسرحيين الجدد وتشجيعهم. وكان له الفضل في تعريف الجمهور الفرنسي بالكاتب الروسي ليو تولستوي، الذي قدّم له مسرحية «سلطة الظلام».

في ألمانيا، أسس أوتو براهم فرقة «المسرح الحر» العام 1889، منطلقاً من التوجه نفسه الذي سار عليه أندريه أنطوان، وكان عرْضُ «أسرة سليك» لهولتزل الإعلانَ (المانفستو) الحقيقي لمبادئ الفرقة، التي اعتمدت مفاهيم وأساليب جديدةً تختلف عن أساليب التمثيل التي كانت سائدة في ذلك الوقت. وفي بريطانيا تأسس «المسرح الحر» العام 1891، وقدّم عروضاً للعديد من كتّاب المسرح الإنجليزي في القرن التاسع عشر، وفي روسيا ظهرت تجربة «المسرح الحر» على يد المخرج مارجانوف العام 1914، وعمل فيه المخرج الشهير تايروف قبل أن يؤسس «مسرح الحجرة». في اليابان أيضاً، وضمن حركة المسرح الجديد التي هدفت إلى استيحاء نموذج المسرح الغربي، قام مسرحيون أمثال أوساني كاوورو، وأيشيكاوا سادانجي، بتأسيس فرقة «المسرح الحر» في بدايات القرن العشرين.

أما في العالم العربي، فإن أقدم فرقتين تحملان هذا الاسم هما: فرقة «المسرح الحر» المصرية العام 1952، وفرقة «المسرح الحر» العراقية العام 1954. الأولى أسسها عبد المنعم مدبولي وسعد أردش وإبراهيم سكر وشكري سرحان وعلي الزرقاني وصلاح منصور وناهد سمير وتوفيق الدقن وغيرهم، وكان في مقدمة أهدافها التبشير بمفاهيم إنسانية تتفق وملامح المجتمع الجديد. ولعلها كانت من أسبق الفرق إلى تبني منظور اجتماعي حداثي في معظم عروضها.

استهلت الفرقة نشاطها العام 1953 بمسرحية عن الإقطاع عنوانها «الأرض الثائرة»، تلتها بمسرحيتَي «المغماطيس» و«الناس اللي تحت» لنعمان عاشور، كما قدّمت بواكير مسرحيات رشاد رشدي، مثل: «الفراشة» و«لعبة الحب»، وعروضاً مكيّفة عن روايات نجيب محفوظ (زقاق المدق، بداية ونهاية، بين القصرين، خان الخليلي، همس الجنون، وميرامار). إلاّ أن الفرقة توقفت عن الإنتاج في بداية السبعينيات، ثم استأنفت العمل العام 1994، لكن على نحو متعثّر، وقبل أربع سنوات بدأت تنشط، فقدمت مسرحية «لو بطّلنا نضحك»، و«الجنس اللطيف» إخراج محمود الألفي، و«ماهيه مراتي» إخراج سعد أردش، و«زقاق المدق» إخراج حسين جمعة، و«مراتي نمرة 11» إخراج سناء شافع، و«الناس اللي تحت» إخراج هشام جمعة، الذي يرأس الفرقة حالياً.

أما فرقة «المسرح الحر» العراقية، فقد أسسها المخرج جاسم العبودي، وهو واحد من رواد المسرح العراقي، وأول من أدخل منهج ستانسلافسكي إلى دروس التمثيل في معهد الفنون الجميلة ببغداد، وعرّف الدارسين والعاملين في المسرح العراقي بطريقته، وذلك بعد عودته من البعثة الدراسية إلى أميركا حاملاً معه دروس المخرجة سونيا مور، إحدى الأميركيات الدارسات لفن المسرح على يد ستانسلافسكي.

وقد استهوته النصوص الأجنبية في تجربته الإخراجية مع الفرقة، لأنه كان يرى أن النصوص المحلية ضعيفة ولا تتفق وعظمة فن المسرح، ولذلك لم يُخرج طوال حياته سوى مسرحيتين محليتين لفرقة المسرح الفني الحديث، هما: «تؤمر بيك» و«ماكو شغل» ليوسف العاني العام 1954. ومن أبرز العروض التي أخرجها العبودي لفرقته التي توقفت عن العمل نهائياً أواخر الستينيات: «ثمن الحرية»، للكاتب الإسباني عمانوئيل روبلس العام 1959، «موتى بلا قبور» لجان بول سارتر العام 1960، و«البخيل» لموليير العام 1969. لكن جماعةً من المسرحيين الشبّان خارج العاصمة، وتحديداً في مدينة العمارة الجنوبية، عملوا على إحياء هذه الفرقة بعد الاحتلال، وقدّموا عدداً من التجارب المسرحية، منها «البطالة والانتخابات” تأليف وإخراج عدي المختار، وهي مسرحية ذات طابع ساخر.

بعد هاتين الفرقتين، تأسست فرق عربية عدة باسم «المسرح الحر»، منها الكويتية والليبية والأردنية، إلاّ أن الأخيرة، التي بدأت نشاطها أواخر العام 2000، من أشهرها وأنشطها، وها هي تمضي في تنظيم مهرجانها السنوي «ليالي المسرح الحر»، الذي يستضيف في دورته الرابعة مجموعةً من العروض العربية (من تونس ومصر وسورية والإمارات والسودان وليبيا)، في سياق توسيع فضائه الإبداعي، وطموحه في أن يكون واحداً من المهرجانات المسرحية العربية المهمة.

المسرح الحر: انفلاتٌ من أعراف سائدة
 
21-May-2009
 
العدد 77