العدد 77 - دولي
 

صلاح حزين

بالرقص في شوارع على وقع المفرقعات في العاصمة السريلانكية، كولومبو، والمدن الأخرى، عبر السريلانكيون من السينهال، الذين يمثلون القومية الأكبر في الجزيرة، عن فرحتهم بانتصار القوات الحكومية على المتمردين التاميل، وهي أقلية في سريلانكا، الذين كانت تقودهم جبهة تحرير نمور التاميل (إيلام) في حركة تطالب بالانفصال.

الرئيس السريلانكي، ماهيندا راجاباسكا، أعلن أن الجيش السريلانكي قد حرر البلاد جميعها من “إرهاب” جبهة تحرير نمور التاميل، مشيرا إلى أن “هدفنا كان إنقاذ التاميل من القبضة القاسية للمتمردين. علينا أن نعيش الآن متساوين في هذا البلد الحر”.

لكن الحال لم يكن كذلك بالنسبة للأقلية التاميلية في البلاد، والتي نقلت وكالات الأنباء والصحف عن بعض ممثليهم ما يفيد بأن مشاعرهم لم تكن محايدة، وأن كثيرا منهم كان يشعر بالمرارة نتيجة الهزيمة المدوية التي منيت بها حركتهم الانفصالية. غير أن بعضهم خالطته مشاعر متناقضة مزجت بين المرارة من تلك الهزيمة السريعة والمأسوية، وبين نوع من الراحة لتوقف دورة العنف التي أودت بحياة ما يزيد على السبعين ألف قتيل خلال نحو خمسة وثلاثين عاما من القتال.

النهاية السريعة والمأسوية للحرب التي خاضها نمور التاميل ضد الحكومات السريلانكية المتعاقبة على مدى العقود الثلاثة الماضي، وضعت حدا لإزهاق أرواح عشرات الآلاف من الطرفين، ذهبت ضحية أعمال حرب وحشية، تخللتها مجازر وجرائم حرب، ارتكبتها القوات الحكومية ضد المتمردين، وعمليات انتحارية نفذها المتمردون، راح ضحيتها كثير من المدنيين السريلانكيين.

وربما كان متوقعا أن تكون نهاية تلك الحرب الطويلة جزءا من طبيعتها العنيفة، فقد، جاء “انتصار” القوات الحكومية على المتردين بعد أن نجحت هذه القوات في حصار المتمردين في منطقة لا تتجاوز مساحتها الثلاثة كليومترات مربعة، ومنعت وصول الإمدادات الغذائية والطبية إلى المتمردين المحاصرين، وكذلك من معهم من المدنيين بمن فيم الأطفال والنساء والشيوخ. إذ قدر عدد القتلى خلال الأسابيع الثلاثة الأخيرة من القتال بنحو ثلاثة آلاف قتيل منهم نحو 200 طفل.

كل هذا جعل الأمر يبدو مأسويا تماما، ففي هذا الحصار، الذي شبهه كثير من المراقبين بما حدث في غزة خلال العدوان عليها في أواخر العام الماضي، وجد آلاف المدنيين أنفسهم في منطقة القتال لا يستطيعون مغادرتها، فيما وجد من تمكن من الفرار منهم نفسه في منطقة تسيطر عليها الحكومة، حيث جمعتهم في معازل تشبه معسكرات الاعتقال، ومنها بدأ تروى قصص الرعب التي رافقت الأيام الأخيرة للحرب المدمرة تلك.

تشبيه ما حدث في سريلانكا في أيام حربها الأخيرة، بما حدث في غزة، شمل أيضا قرار الحكومة السريلانكية بمنع دخول الصحفيين، وكذلك منظمات الإغاثة الدولية، إلى منطقة القتال، فوصلت المعركة نهايتها المأسوية من دون وجود شهود عيان على ما حدث فيها من مجازر وجرائم حرب محتملة، فالمنظمة الدولية الوحيدة التي كانت متواجدة هناك هي المنظمة الدولية للصليب الأحمر، التي لم تكن مطلقة الأيدي هي الأخرى، وكان كثير من عناصرها الذين تطلب السماح لهم بالدخول إلى المنطقة المنكوبة بالحرب والحصار، يتعرضون للمضايقة قبل الوصول إلى منطقة القتال، إن تمكنوا من الوصول.

عدم وجود شهود على الساعات الأخيرة من الحرب، كان السبب فيما تردد من أنباء متضاربة حول مقتل زعيم جبهة تحرير نمور التاميل فيلوبيلاي براباكاران، الذي عرض التلفزيون الحكومي صورا لجثته أكثر من مرة، فيما يشبه تأكيد الانتصار الذي كان قد أعلنه الرئيس السريلانكي من شاشة التلفزيون نفسه، فقد صدرت تصريحات عديدة تزعم أن براباكاران قتل أثناء محاولته تسليم نفسه مع أحد مساعديه، وهي تصريحات ناقضتها تصريحات رسمية تفيد أن زعيم المتمردين قتل في أثناء القتال مع القوات الحكومية.

المؤكد، هو أن براباكاران، الذي شددت القوات الحكومية الخناق عليه وعلى من بقي معه، والذين حوصروا في منطقة لا تتجاوز مساحتها الأمتار المربعة، كان يسعى إلى تسليم نفسه إلى طرف ثالث، فاتصل باللجنة الدولية للصليب الأحمر، وكذلك بوزير البيئة النرويجي إريك سولهايم، الذي كان التقى براباكاران في أثناء قيادته وساطة بين الحكومة السريلانكية والمتمردين التاميل، ولكنه لم يتمكن من تنفيذ ما عزم عليه.

الحكومة أعلنت على لسان ناطق باسم الجيش السريلانكي، أن رسالة قصيرة على الموبايل وصلتها من زعيم المتمردين، يطلب فيها الاستسلام، وأن قائد الجيش رد بأن هناك طريقا واحدا للاستسلام في الحرب هي رفع راية بيضاء والتقدم من دون إثارة شبهات أثناء السير حتى تتم عملية الاستسلام. لكن أحدا لم يشهد ما حدث حقا، والنتيجة مقتل زعيم المتمردين التاميل الذي كان قد أقسم على ألا يستسلم أبدا، مع عدد من مساعديه، “الذي قتلوا حتى يقضي الجيش السريلانكي على قيادة التاميل العسكرية والسياسية”، كما قالت شبكة “تاميل نت” الناطقة باسم حركة التمرد التاميلية.

وقد أثار ناشرو الموقع، وأطراف أخرى بينها صحيفتا الإندبندنت والغارديان البريطانيتان، قضية العصابة الزرقاء التي كانت ملفوفة حول رأس الزعيم القتيل، مرجحة، مع آخرين، أنها وضعت لكي تخفي ثقب الرصاصة التي أصابت رأسه، ما يعني أنه قتل برصاصة في الرأس. وهو زعم إذا صدق، فإنه يعنى أن الجيش السريلانكي ارتكب جريمة حرب، فقتل الأسير يدخل في هذا الباب.

لقد تحول مقتل زعيم المتمردين التاميل إلى سر من أسرار الحرب الطويلة البشعة التي تكاثرت أخيرا، فلم يعد يعرف أحد ما حدث حقا للمدنيين أو العسكريين الذين كانوا في تلك المنطقة الملتهبة في تلك الساعات العصيبة.

غير أن كل نهاية تتضمن بداية من نوع ما. وهذا ما أشار إليه كثير من الكتاب والصحفيين الذين راقبوا هذه الحرب المدمرة على مدى ثلاثة عقود، فقد تكون نهاية التمرد بداية لإصلاح العلاقة بين القومية السنهالية، التي تمثل الأغلبية في البلاد، وبين الأقلية التاميلية التي ثارت مطالبة بالانفصال عن سريلانكا، نتيجة ممارسات ذات طابع تمييزي ضدها. هكذا بدأت حركة التمرد التاميل التي تعود في بداياتها إلى العام 1977، قبل أن تتحول إلى حركة مسلحة تنحو إلى العنف في أواسط ثمانينيات القرن الماضي، لتشهد تصعيدا خطيرا خلال العقدين الماضيين من حيث درجة العنف التي وصلت إليها الحرب.

إن الطريقة التي ستقوم فيها الحكومة بمعالجة أوضاع الأقلية التاميلية في البلاد بعد انتصارها وانتهاء التمرد، سوف تعطي مؤشرا على نيتها في الاستفادة من الأخطاء السابقة التي ارتكبتها، والتي أدت إلى الحرب الطويلة البشعة التي وضعت أوزارها أخيرا.

لقد بدأت الحرب بسبب سياسة التمييز وعدم المساواة ضد الأقلية التاميلية، واستمرت وزادت عنفا بسبب الأعمال الانتحارية، التي تدخل حتما في خانة الإرهاب، التي ارتكبها المتمردون التاميل في البلاد، وقد حان الوقت لإرساء حكم ديمقراطي في البلاد يقوم على أساس المواطنة، تماما كما هو الحال في الهند المجاورة حيث فاز حزب المؤتمر العلماني في الانتخابات الأخيرة. ونذكر هنا أن هذا الحزب الذي كان يقوده آنذاك، العام 1987، قد تدخل في مسعى لإنهاء الحرب الأهلية المدمرة في سريلانكا، فالجزيرة الصغيرة ليست بلدا مجاورا للهند التي لا يجادل أحد في أنها دولة إقليمية يحسب حسابها، بل إنها تضم أيضا الجزء الأكبر من التاميل الذين يعيش نحو 60 ميلونا منهم في الهند.

أيامها الأخيرة أشبه بالحرب على غزة سريلانكا: حرب التمرد انتهت فهل تبدأ حملة الإصلاح؟
 
21-May-2009
 
العدد 77