العدد 76 - ثقافي
 

عواد علي

بعد رحيل محمود درويش كان من المتوقع أن يتجه المسرح العربي إلى تقديم سيرة حياته، لا بوصفه شاعراً كبيراً فحسْب، بل رمزاً شديد اللمعان للروح الفلسطينية المقاومة، وللدفاع عن الحرية والجمال والحياة، وللثقافة العربية المعاصرة وامتدادها الإنساني. وجاءت المبادرة عقب رحيله بثلاثة أسابيع متمثلةً بعرض مونودرامي عنوانه «حنين» كتب نصه ومثله عبد الغني الجعبري، وأنتجه مسرح الأحلام في مدينة الخليل الفلسطينية.

وقبل أيام قُدّم عرض ثانٍ عن الفترة المبكرة من حياة الشاعر بعنوان «لقاء الريح»، كتبت نصه فائزة اليحيى السفاريني، وأخرجه عصام سميح البلبيسي لـ«دارة الإشراقات الأدبية» في مدرسة عمّان الوطنية. وهو عرض للفتيان شارك في تمثيله ثلاثة وعشرون ممثلاً وممثلةً، وسيعاد تقديمه ضمن عروض مهرجان ليالي المسرح الحر الذي تبدأ فعالياته يوم السبت 16 أيار/مايو 2009.

تتوزع أحداث المسرحية إلى أكثر من عشر لوحات أو مشاهد، ويجري القسم الأول منها في قرية «البروة»، مسقط رأس محمود درويش، ويبدأ من لحظة ولادة الشاعر في مشهد بصري إيحائي، حيث يُقذف إلى وسط الخشبة طفل من بين ستارة سوداء تغلف إطار باب، وما إن يقف على قدميه حتى يجري اختزال للزمن، فيبدو في عمر ست سنين (مثّله يوسف كمال)، وحوله يمور فضاء القرية الصغير، الذي يرمز لفضاء أكبر هو فلسطين، بحدث مزلزل هو حدث النكبة، ويجد نفسه برفقة أبيه (مثّله فارس البحري) في قلب المأساة، مأساة النازحين والمهجّرين.

في إطار هذا الحدث يركّز العرض على ثلاثة نماذج: نموذج الطفل الحاضر محمود درويش، النازح مع النازحين إلى لبنان، ونموذج الطفل الغائب محمد (مثّله مروان الطاهر)، الذي فقدته أمه سعدية (مثّلتها رزانة السلاوي)، ونموذج الطفلة سلوى (مثّلتها زين خير) التي أضاعت أمها وجدّتها في خضم الحرب. وفي مقابل هذه النماذج الفلسطينية ثمة الطرف الآخر في الصراع، متمثلاً بالفتاة الإسرائيلية المتسربلة بعباءة سوداء، التي تتصرف بروح شيطانية، وتدور طوال العرض حول دمية شخصية عسكرية كبيرة في هيئة فزّاعة (مثّلتها ليلك الأسدي)، وهي ترمز إلى الحركة الصهيونية، وإلى جانبها بنات آوى التي تشير إلى المنظمات الصهيونية المسلحة.

درامياً، ينحصر صراع الفتاة الإسرائيلية مع شخصيتَي الراوي والراوية (أدّاهما جعفر طوقان، وعائدة لوكاشة)، اللذين يمثلان أكثر من صورة للشعب الفلسطيني: الحقيقة المتأصلة والتاريخ والضمير والجوهر. ويتسم هذا الصراع بكونه صراع وجود وبقاء «إحنا هون».. «لا إحنا هون».

في مشاهد لاحقة، يعود محمود إلى فلسطين متخفياً، وقد أصبح صبياً (مثّله عبد الله الأسدي)، ليجد قريته قد دمرها الصهاينة، فيذهب مع أسرته إلى قرية «الجديدة»، ثم إلى قرية «دير الأسد»، وهناك يبدأ تعليمه الابتدائي دون علم سلطات الاحتلال، لأنه يخشى أن يتعرض إلى النفي مرة أخرى إذا علمت بأمر تسلله. أما سعدية فتسمع أول مرة أخبار ابنها محمد حين يتحدث عنه صديقه إلياس، في برنامج إذاعي يُجري لقاءات مع اللاجئين، واصفاً إياه بأنه شجاع قاوم الجنود اليهود.

تبدأ المواجهة بين محمود والاحتلال في هذه المرحلة من حياته حينما يلقي قصيدةً عمودية في المدرسة عن اللجوء في ذكرى اغتصاب الصهاينة لوطنه. وتبرز جرأته هنا في أنه يقرأ القصيدة أمام الضابط الإسرائيلي (مثّله باسل أبو حمدان)، الذي أرغم إدارة المدرسة على الاحتفال بما أسماه «ذكرى قيام الدولة». تثير القصيدة غضب الضابط فيلقي بمحمود في زنزانة، ثم يهدده بحرمانه من الدراسة وسحب رخصة العمل من أبيه، لكنه يظل صامداً ولا يساوم. ويتعرض في ما بعد إلى الاعتقال خمس مرات بسبب سفره من حيفا إلى القدس بلا إذن من المحتل.

في سياق هذه المشاهد، يقدّم العرض نموذجاً واحداً للشخصية الفلسطينية السلبية مقابل العديد من الشخصيات الإيجابية، وهي شخصية المختار الانتهازي المتواطئ، الذي يجد نفسه منبوذاً من أهل القرية بسبب خضوعه لسلطة الاحتلال وتعاونه معها، وقد أسند المخرج دوره إلى ممثلة (سالي الحلبي) ليوحي إلى المتلقي أنه شخص فاقد الرجولة! وأضفى وجود هذه الشخصية في العرض طابعاً موضوعياً على رؤية المؤلفة والمخرج في آن واحد، وشكّل حالةً متقدمة تخطّت الكثير من التجارب المسرحية الفلسطينية والعربية التي غالباً ما قدمت الشخصيات الفلسطينية على أنها ذات تاريخ ذهبي في تعاملها مع المحتل. وثمة أيضاً شخصية محمد، الذي تعقد أمه قرانه على الصبية سلوى وهو غائب، وتزفهما في مشهد رمزي يبرز تقاليد العرس الفلسطيني، لكنه يستشهد لحظة عودته إلى القرية برصاص الجنود الإسرائيليين، ظناً منهم أنه محمود المطلوب إلقاء القبض عليه بأمر من الحاكم المدني، لأنه يحرض على خروج الاحتلال: «اخرجوا من أرضنا، من كل شيء، واخرجوا من ذكريات الذاكرة». باستشهاد محمد، يحيلنا العرض إيحائياً إلى استشهاد محمد الدرة.

يتضمن العرض مشاهد أخرى تصور الصراع المحتدم بين الشخصيات الفلسطينية من جهة والمحتلين من جهة أخرى، من أبرزها مشهد مواجهة الحاكم (مثّلت دوره ليال لطفي بإتقان كبير) لأهل القرية وهم يغطون أجسادهم بجلابيب بيض، بادين له كالأشباح، ويرددون قصيدة درويش الشهيرة «سجّل أنا عربي»، فيصاب بما يشبه الهستيريا.

بذل المخرج عصام سميح البلبيسي جهداً متميزاً في صياغة العرض صياغةً إخراجيةً ماهرة، وقيادة حشد من الممثلات والممثلين الفتيان الهواة، ونجح في إبراز الطاقات الإبداعية عند الموهوبين منهم. وبذلك قدّم إضافةً نوعية إلى رصيده الإخراجي الذي عُرف به خلال ما يزيد على ربع قرن في المسرح العراقي يوم كان أستاذاً في معهد الفنون الجميلة بالموصل.

درويش في الفضاء المسرحي “لقاء الريح”: سيرة الشاعر
 
14-May-2009
 
العدد 76