العدد 76 - الملف
 

إبراهيم قبيلات

شهدت خمسينيات القرن الماضي حراكاً حزبياً نشطاً، وبخاصة بعد قيام ثورة 23 تموز/يوليو في مصر العام 1952، وما رافقها من مد ناصري شمل العالم العربي لا سيما الأردن، وما تلا ذلك من إعلان الثورة الجزائرية (1954 – 1962) والعدوان الثلاثي على مصر (1956)، الوحدة السورية المصرية (1958).

الحزب الشيوعي الأردني وحركة القوميين العرب استطاعا مبكراً نشر أفكارهما الحزبية في المفرق مستفيدين من حالة النهوض الجماهيري الذي غذته الأحداث سابقة الذكر. النائب تيسير شديفات يؤكد أن محافظة المفرق عاشت في خمسينيات القرن الماضي مرحلة مد ثقافي وسياسي عارم «وقد استغل المدرسون القادمون من مختلف أنحاء المملكة، وبخاصة من شمالها، وجودهم بين طلاب المفرق في تلك الحقبة الزمنية خير استغلال، فكان لهم أكبر الأثر في نشر الأفكار الحزبية، وبخاصة: الأفكار الناصرية والشيوعية والقومية». من هؤلاء المدرسين يستذكر شديفات قاسم الخصاونة، حنا حداد، سليم حداد، جورج حداد، لكنه لا يعرف بالتحديد انتماءاتهم الحزبية أو الفكرية.

الأديب فخري النمري يقول لـ«ے»: «دخلت الأطياف السياسية المفرق مبكراً، وكان المعلمون الحرف الأول في صفحة المفرق السياسية.» مدرسة المفرق الإعدادية بحسب النمري كانت منبعاً للأفكار السياسية، فمديرها قاسم الخصاونة كان من أبرز المعلمين النشطين سياسياً، ومعلم مادة العلوم حنا حداد لم يكن أقل نشاطاً من مديره، وبخاصة أن الاثنين كانا يحملان الفكر البعثي. يضيف النمري أن المسيرات والتـظاهرات كانت الفيصل بين الأحزاب الثلاثة: الشيوعي، البعث، القوميون العرب، «ففي أيام حلف بغداد شهدت المفرق مداً عارماً من التـظاهرات السياسية، وصلت إحداها مخفر المفرق آنذاك، وقامت بإنزال العلم الأردني من فوقه».

ويلفت النمري النظر إلى شخصية فريدة برزت في تـظاهرات المفرق في تلك الأيام، هي عبلة يوسف لطفي، التي يقول النمري إنها «كانت تقود المتظاهرين في المفرق؛ ما أعطى المفرق صبغة مميزة في وقت مبكر».

لا يعرف النمري الكثير عن تلك الفتاة التي كانت في السادسة عشرة من عمرها آنذاك، لكن «ے» تمكنت من الحصول على رقم هاتف شقيقها ماجد يوسف لطفي الذي قال إن أسرته المسيحية كانت قد انتقلت إلى المفرق قادمة من بلدة الحصن الشمالية في أوائل الثلاثينيات، حيث عمل رب العائلة مديراً لبريد المفرق الذي ساعدت شركة نفط العراق على إنشائه، والتي كانت تعمل على مد خط أنابيب التابلاين في منطقة المفرق.

وأكد ماجد لطفي أن شقيقته، هي اليوم في السبعينيات من عمرها، ولم تتمكن «ے» من الاتصال بها؛ للحديث عن تلك الفترة. ولكن شقيقها أوضح أن عبلة كانت فعلا تقود التظاهرات التي كانت تنطلق في شوارع المفرق في أواسط الخمسينيات محمولة على الأكتاف. وأكد أن شقيقته لم تكن ذات ميول حزبية أو فكرية محددة، ولكنها كانت «عروبية» التوجهات في صورة عامة.

في الخمسينيات والستينيات كانت إذاعة صوت العرب من القاهرة، تلعب دوراً بارزاً في عملية التأطير السياسي. «كانت إذاعة صوت العرب تمثّل قبلة المواطنين السياسية، وعندما كانت تعلن الإذاعة عن خطاب لعبد الناصر كانت الجموع تتهافت على المذياع لسماعه»، كما يقول الكاتب الصحفي جميل النمري.

أما سعد هايل السرور، عضو المجلس النيابي الخامس عشر، فيقدم وجهة نظر مختلفة، فهو يرى أن النشاط الحزبي لليساريين والقوميين بدأ في ستينيات القرن الماضي، «لكنه كان ضعيفا وغير مؤثر؛ فالبيئة الاجتماعية آنذاك لم تكن تساعد على النمو الحزبي». ويعتقد السرور أن جمال عبد الناصر استطاع برفعه شعار الوحدة العربية كسب تعاطف كثير من العرب بمن فيهم الأردنيون، «إلا أن هذا التعاطف لم يأخذ شكل التنظيم الحزبي، بل كان يحمله أفراد نتيجة تعاطفهم مع الفكر الناصري».

أما الإسلاميون الذين يتمتعون اليوم بحضور قوي في المفرق، فيؤكد فخري النمري أنه «لم يكن لهم وجود مؤثر في الخمسينيات، وأن تواجدهم لم يبدأ إلا في أواخر الستينيات». ويتفق مع النمري في ذلك كل من عبد المجيد الخوالدة، عضو المجلس النيابي الرابع عشر، والسرور الذي يشير إلى أنه لم يكن للإسلاميين وجود فاعل قبل السبعينيات، وأنهم «بدأوا في العقدين التاليين ينشطون نتيجة لعدم وجود قوى سياسية أخرى مؤثرة».

شديفات يشير إلى أنه في العام 1957، كان القمع هو الوسيلة المتبعة في التعامل مع الأحزاب، باستثناء الإسلاميين الذين كانوا قلة ولم يكن لهم تأثير. ومع بداية الستينيات عادت الحركات السياسية تنشط، وبخاصة بعد العام 1967.

ويلاحظ فخري النمري أن العمل الحزبي، بعد معركة الكرامة (1968)، بدأ في الانصهار داخل الفصائل الفلسطينية، «فمعظم القوى السياسية في تلك الفترة، مكرهة أو راضية، انخرطت في العمل الفدائي الفلسطيني باعتبار أن الأردن وفلسطين وطن واحد».

مرة أخرى السرور يرى الأمر من وجهة نظر مختلفة بقوله إن «بعض النشطاء من الشباب المسيس انخرط في العمل المسلح، كوجه جديد للعمل الحزبي ولجلب الاهتمام لهم، وبخاصة أنه لم يكن لهم ثقل حزبي في المنطقة».

«ظهور التنظيمات الفدائية في نهاية الستينيات في المفرق شكل الوعاء الذي انصهرت فيه الحركة الوطنية الحزبية واصطبغت بالصبغة الفدائية، إلا أن الحزب الشيوعي كان الأقدر على المحافظة على هويته الحزبية فقد شكل فصيل «الأنصار» المسلح الخاص بالحزب، ولم يكن ينظر إلى العمل الفدائي في حينه باعتباره عملاً فلسطينياً، بل على أساس أنه عمل مقاوم أردني»، كما قال شديفات لـ«السجل».

ويعتقد فخري النمري أن الحال تبدل بعد أحداث أيلول/سبتمبر 1970، «حيث أصيب المناخ السياسي بالخَراب لغاية الآن»، وذلك في إشارة إلى المواجهات التي حدثت بين الفصائل الفلسطينية والنظام الأردني العام 1970، وما تبع ذلك من فترة ركود شملت كل الأطياف السياسية، وبدأت مرحلة جديدة من العمل السياسي السري من جانب الأحزاب اليسارية والقومية، والعمل العلني من جانب الإخوان المسلمين الذي استطاعوا تشكيل قاعدة سياسية مكنته من إيصال أحد أعضائه، عبد المجيد الخوالدة، إلى البرلمان في انتخابات العام 2003.

سياسي أردني فضل عدم ذكر اسمه يرى أن أحداث أيلول/سبتمبر 1970 كانت وراء قمع الحكومة للأحزاب طوال عقدي السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، «ما أوجد حالة نفور من الأحزاب عامة، وهو ما ساهم في إضعاف دورها في تلك الفترة».

لكن مرحلة جديدة بدأت في العام 1989، حين جرت انتخابات نيابية لأول مرة منذ احتلال الضفة الغربية عام 1967. يقول شديفات إن القوى السياسية شاركت في الانتخابات البرلمانية في العام 1989، «إلا أن الردة الحكومية على الميثاق الوطني بحل مجلس النواب العام 1993، والدخول في مفاوضات السلام وإقرار الصوت الواحد، أوجد حالة من التراجع في الحريات السياسية والديمقراطية»، ولم تكن المفرق استثناء من حالة التراجع تلك.

المفرق السياسية: تحزُّب فعمل مسلّح فعودة إلى الحياة البرلمانية
 
14-May-2009
 
العدد 76