العدد 75 - كاتب / قارئ
 

لعل إشكاليات الأمن الإسرائيلي وتحدياته، من أهم الفواصل التاريخية في رسم التوجهات الاستراتيجية للسياسة الإسرائيلية داخلياً وخارجياً، وهي إشكاليات استهلكت من تلك الدولة قدراً ليس بالقليل من الجهد، مع كل ما أحاط ذلك من ردود أفعال وتطورات، فقد جاء الفكر الإسرائيلي نتاجاً لعقائد دينية وسياسية امتزجت فيها الدعوات التوسعية بالآلة العسكرية تحقيقاً لأهدافه الاستراتيجية.

ثمة عوامل متعددة، ساهمت في خلق المناخ الأمني المعقد المحيط بإسرائيل، من بينها: التاريخ الطويل المشحون بالحروب والمنازعات، والصعوبات المختلفة التي واجهتها إسرائيل لتأمين بيئة تحفظ لها أمنها ووجودها ومستقبلها.

تتصدر مسألة الأمن قائمة الأهداف الاستراتيجية العليا لاسرائيل، ويجري تصوير الأوضاع والمتطلبات الخاصة بهذه المسألة على أنها تشكل مرادفاً لوجود الدولة العبرية. فمنذ قيامها العام 1948 واعتراف العالم بها، وضعت إسرائيل مسألة الأمن في قمة أولوياتها، وبلورت استراتيجية متكاملة لمفهوم أمنها وسبل تحقيقه، ووظفت إمكانيات مالية واقتصادية وتعليمية وثقافية كبيرة؛ لخدمة استراتيجيتها الأمنية .

يُسجَّل للقيادات التاريخية الإسرائيلية أنها أجادت صياغة روايتها التاريخية لجذور الصراع ومسبباته، ونجحت آلتها الإعلامية في إقناع جمهورها وقطاع واسع من الرأي العام الأميركي والأوروبي بروايتها القائمة على الكذب والافتراء. وجعلت إسرائيل من أمنها مسألة مصيرية وأحاطته بهالة مقدسة، وحولته إلى عقدة جماعية تتحكم في تحديد اتجاهات الرأي العام الإسرائيلي.

ولم يستطع العرب، رغم تخليهم، منذ سنين طويلة، عن الخيار العسكري، وتراجعهم عن أفكارهم الداعية إلى تدمير دولة إسرائيل، ودخولهم مفاوضات مباشرة معها، وعقدهم عددا من اتفاقات الصلح، في إقناع إسرائيل بالتخلي عن مفاهيمها الأمنية القديمة، أو نزع ذريعة الأمن من القيادة الإسرائيلية، التي استخدمتها كمبرر للهروب من دفع استحقاقات السلام مع سورية ولبنان والفلسطينيين، لغاية الآن. وتحولت مسألة أمن إسرائيل إلى ذريعة لشن الحروب والتوسع، فشنت إسرائيل منذ نشوئها حتى العام 2006، ست حروب، إذا استثنينا العدوان الإسرائيلي الأخير على قطاع غزة.

إن بدء عملية التسوية السلمية في الشرق الأوسط، وتوقيع إسرائيل معاهدات سلام مع عدد من الدول العربية؛ لم يدفع القيادات السياسية الإسرائيلية للتخلي عن مفاهيمها الأمنية. ظهر ذلك جلياً من خلال ورود مفهوم الأمن والترتيبات الأمنية عدداً قياسياً من المرات، في معاهدة السلام التي وقعتها إسرائيل مع الفلسطينيين ومع الأردن. وفي تلك الاتفاقيات والمعاهدات لجأت إسرائيل للاعتماد على المقولات والاعتبارات الأمنية لتبرير المصلحة الأيديولوجية في فرض شروطها. واستخدمت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة بخاصة في عهد نتنياهو، المقولات والحجج الأمنية لتجنب التنازل عن أية أراض للفلسطينيين أو اخلاء بؤر استيطانية. وثمة إجماع بين الإسرائيليين على أن قضية الأمن لا يمكن المساومة عليها، وما «السلام» في المفهوم الإسرائيلي إلا وسيلة لتحقيق أكبر قدر من الأمن. وراوحت الاستراتيجية الإسرائيلية التي يمكن الحفاظ بها على الأمن، ما بين دعوة شمعون بيريس التي يريدها قوة اقتصادية تعتمد على قوة عسكرية رادعة، ودعوة نتنياهو على أنها قوة عسكرية، قادرة على إخضاع جوارها، وفرض ما تريده عليهم.

إسرائيل لن تقبل بسلام إلا على مقاس أمنها، أو إذا اقتنعت أن ثمن الاستمرار في احتلال الأراضي العربية، أغلى بكثير من ثمن الجلاء عن تلك الأراضي والاعتراف بالحقوق المشروعة للفلسطينيين والسوريين واللبنانيين. ويبقى أخطر التحديات التي تواجه إسرائيل الآن هي عدم الاعتراف بها في الوجود، وهو ما تتخذ منه ذريعة للتمسك بعقلية القلعة العسكرية، بل العجز عن التأقلم الإقليمي والدولي.

من هنا جاءت دعوة الملك عبدالله الثاني لإسرائيل أن تختار بين «صحبة الجيران» أو البقاء في عزلة؛ لكأنه يريد التذكير والإشارة إلى ما حدث العام 73 قبل الميلاد عندما حاصرت جيوش الرومان مجموعة من اليهود في قلعة «المسادا» التي كانت آخر معقل لهم قبل أن يطردهم الرومان، واعتقدوا أنهم سينجون إن هم تحصنوا بالقلعة، لكن الرومان استطاعوا دخول القلعة، مما دفع اليهود الموجودين فيها إلى الانتحار الجماعي.

هذه هي العقلية المسيطرة على النفسية والذهنية اليهودية منذ ذلك اليوم، مروراً بالأحياء التي كان اليهود يعيشون بها في أوروبا (الجيتوات).

إشارة الملك عبد الله الثاني تنطبق بكليتها على إسرائيل اليوم. فإسرائيل أمام خيارين هما: أن تعيش محاصَرة وبخوف ورعب ودون أمن واستقرار، أو أن تختار السلام مع جيرانها العرب الذين قدموا لها مبادرة تاريخية العام 2002 ووافقت عليها الدول العربية المجتمعة في قمة بيروت تحت عنوان «مبادرة السلام العربية» التي تؤمِّن لإسرائيل اعترافاً عربياً بها، مقابل الانسحاب من الأراضي العربية المحتلة العام 1967، وإقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس.

إلا أن نظرة استشرافية مبنية على المعطيات الراهنة، تكفي للدلالة بوضوح إلى أن إسرائيل ستبقى رهينة لعقلية القلعة المبنية على هاجس الأمن، الذي سيبقى حاضراً في كل سياساتها، الداخلية و الخارجية.

خالد وليد محمود

إسرائيل بين “صحبة الجيران” أو البقاء في عزلة
 
07-May-2009
 
العدد 75