العدد 75 - أعلام
 

عرفت الثقافة العربية، في القرنين التاسع عشر والعشرين، جهوداً فكرية متلاحقة، أخذت بتصورات حديثة، اعترفت بالعقل ووظيفته النقدية، وباختلاف أسئلة الحاضر عن الماضي، وبضرورة الانفتاح على المعارف والتجارب الإنسانية الكونية. وتطلّعت هذه الثقافة إلى حداثة عربيّة، تتأسس على الديمقراطية والمجتمع المدني والاستقلال الوطني وتحرر المرأة والحوار المجتمعي، بعيداً عن التعصب والأفكار الجاهزة.

فيصل دراج

ربما يكون الشيخ محمد عبده (1849 - 1905) الشخصيةَ الثقافية العربية الأكثر فاعلية وتجديداً في نهاية القرن العشرين، فقد ارتبط اسمه بجملة من الوقائع الوطنية والفكرية والاجتماعية : أسهم في الثورة العرابية العام 1882 وانتهى إلى المنفى، وشارك مع جمال الدين الأفغاني في إصدار «العروة الوثقى» العام 1884، وتنقّل بين بيروت وباريس ولندن، ودعم قاسم أمين في دعوته إلى تحرير المرأة، ودخل مع فرح أنطون في سجال طويل حول التعصّب الديني، وردّ على الفرنسي هوناتو، حين اتهم الإسلام بالعداء للعلم، وعمل على إصلاح الأزهر، وغدا مفتي الديار المصرية العام 1899، وعضواً في مجلس شورى القوانين... وحين توفي حزن عليه «المطربشون»، أي دعاة التجديد، أكثر مما حزن عليه «المعمّمون»، دعاة التقليد والجمود، كما يقول طه حسين في كتابه «الأيام».

رغم لقب الشيخ، الذي يحيل على عقل يبدأ بالنص وينتهي به، كان في منظوره وممارساته صورة عن المثقف المستنير، فاحتفى بصدور صحيفة «الأهرام» العام 1876، ونشر مقالات كثيرة تمس القضايا الاجتماعية الواجب إصلاحها، وانشغل بالقضايا السياسية والوطنية، وتعلم الفرنسية في سن متأخرة، وترجم عنها كتاب سبنسر عن «التربية»، وترجم رسالة «الرد على الدهريين» للأفغاني عن الفارسية، وقرأ أفكار داروين والنظرية التطورية، وأسس مع غيره «الجمعية الخيرية الإسلامية» العام 1892، التي عملت على نشر التعليم وإعانة الفقراء، واستصدر فتاوى تقرّ تعليم بعض العلوم الحديثة في الأزهر.

سعى مبكراً إلى الربط بين المعرفة والإصلاح الاجتماعي، وبين المعرفة الإصلاحية والخيار السياسي، وأدرك، في الحالين، أنّ الرد على «الهزيمة العرابية» يحتاج إلى وسائل تتجاوز «الانقلاب العسكري»، تتمثل في إصلاح العقول والانفتاح على المعارف العصرية. لم ينسحب الشيخ محمد عبده من السياسة، بل ذهب إلى سياسة أخرى أكثر فاعلية، ذلك أن مقاومة الاستعمار تحتاج إلى مواطنين يميّزون بين الخطأ والصواب. لا غرابة أن تصطدم مشاريعه الإصلاحية بالسياسة الإنجليزية التي رأت في شخصية الإمام ثائراً من نوع جديد.

طرح الشيخ محمد عبده السؤال الشهير الذي استمر لدى غيره من المستنيرين: من أين جاء تخلّف المسلمين؟ لم يختصر السؤال إلى علاقة الدين بالاستبداد السياسي، كما فعل عبد الرحمن الكواكبي، بل وسّع الأسئلة والإجابات، محاولاً النهوض بمشروع إصلاح ديني شامل، يمسّ التصور الديني الموروث لدى رجل الدين والفرد المسلم في آن، وصولاً إلى العلاقة بين الدين والحياة وبين التأويل الديني والأحكام العقلانية. يقول مطالباً بقراءة جديدة للإسلام: «ظهرت بين المسلمين أقوام بلباس الدين، أبدعوا فيه وخلطوا بأصوله ما ليس فيها، فانتشرت فيهم قواعد الجبر وضربت في الأذهان حتى اخترقتها»، وأشار أيضاً إلى «كذبة النقل من الأحاديث، ينسبونها إلى صاحب الشرح صلى الله عليه وسلّم»، والأساسي في قوله تحرير المسلم من القدرية والخروج من «استبداد البداهة»، الذي يعدّ ما يقول به المتطفلون المتديّنون حقيقة خالصة، وضرورة العودة إلى «الأصول» التي تكشف الصحيح من الزائف.

ربط الشيخ محمد عبده بين إصلاح الدين وإصلاح العقل. يقول في «رسالة التوحيد»: «لقد أخطأ المسلم في فهم معنى التوكل والقدر، فمال إلى الكسل، وقعد عن العمل، ظن أن الخير ملازم لعنوان المسلم، كما أخطأ في معنى الطاعة لأولي الأمر والانقياد لأوامرهم. حتى ظن أن الحكومة يمكنها القيام بشؤونه جميعاً من إدارة وسياسة». دفعه هذا التصور إلى الهجوم على التَدَرْوش والمتدروشين، وإلى الانفتاح على أسئلة الحياة وقضايا البشر. يقول في دراسته «الاضطهاد بين النصرانية والإسلام»: «الحياة في الإسلام مقدمة على الدين، وأوامر الحنفية السمحة إن كانت تشدّ العبد إلى ربه وتملأ قلبه من رهبته، فهي مع ذلك لا تأخذه عن كسبه ولا تحرمه من التمتع به، ولا توجب عليه تقشّف الزهادة ولا تجشمه في ترك الملذات ما فوق العادة». حاول عبده قراءة الإسلام بمنهج عقلاني، يحرّره مما علق به من شوائب وآثار خارجية، ويبثّ في نفوس المسلمين شعوراً دينياً وفكراً أخلاقياً وحساً بالمسؤولية. بدأ من واقع الإنسان المسلم، مؤمناً بأن صورة الإسلام من صورة المنتمين إليه.

إذا كان في المنهج العقلاني ما يأمر بالفصل بين الديني الأصلي والشوائب المضافة إليه، فإن في الحياة المعاصرة ما يقضي بـ«إسلام جديد»، ينفتح على الثقافات الأخرى. وصل الشيخ إلى ما وصل إليه وهو يتأمل عالماً معاصراً سمته التطور، محاولاً تأويلاً دينياً متطوراً، يوحد بين المعاصرة والإسلام والتجديد والحفاظ على الأصول. لعل هذا الحلم، الذي يضع الإسلام في المعاصرة، والمعاصرة في الإسلام، هو الذي دفعه إلى القول: «سيكون على الإسلام أن يهذّب المدنية الحديثة، وستكون من أقوى أنصاره متى عرفته وعرفها أهله». والمقصود قبل غيره «الانفتاح على الآخر»، بلغة اليوم، بعيداً عن التصور، الذي يقصر الإيمان على المسلم، دون أن يلمس تخلّفه أو أن يرى تقدم الآخرين.

رفض عبده الأحكام الجاهزة، التي ترى في الاعتراف بالغرب إضعافاً للإسلام، بقدر ما رفض «الإطلاقيات»، التي تمحو الشك والمساءلة وتساوي بين سائر المسلمين والأصول الدينية. فهو يقول في رسالة لأحد العلماء بالهند العام 1904: «ما قيمة سند لا أعرف بنفسي رجاله، ولا أحوالهم ولا مكانهم من الثقة والضبط»، ويقول في تفسيره سورةَ البقرة: «إن ثقة الناقل بمن ينقل عنه حالة خاصة به، لا يمكن لغيره أن يشعر بها حتى يكون لها مع المنقول عنه في الحال مثل ما للنقل معه، فلا بد أن يكون عارفاً بأحواله وأخلاقه، ونحو ذلك مما يطول شرحه...».

هذا التأمل يؤكد نسبية المعرفة، فلا وجود لعقل يتماهى بعقل آخر، كما يؤكد ضرورة التقصي والبعد عن الأقوال المجترَّة. لكنه، في الحالين، يرفض ثقافة النقل ويطالب بثقافة العقل، ويشجب عادة التلقين ويدعو إلى الإبداع، ويعترف بذاتية الباحث وبحقه في الرفض والقبول والمبادرة.

اشتق الشيخ فاعلية العقل من حرية الإنسان العاقل، واشتق معنى الإسلام من عقل حر يربط بين الحاجة الإنسانية والوازع الديني. يقول في «رسالة التوحيد»: «الأفعال الإنسانية مختارة في ما أُمرت به، وكما يشهد سليم العقل والحواس من نفسه أنه موجود ولا يحتاج في ذلك إلى دليل يهديه ولعلم يرشده، كذلك يشهد أنه مدرك لأعماله الاختيارية يزن نتائجها بعقله ويقدرها بإرادته». قال عبده إن العقل يقود صاحبه إلى الحقيقة، وإن كانت تلك الحقيقة صالحة للفرد كفرد لا كعضو في الجماعة، بل إن العقل هو ما يثبت صحة الوحي، الذي يمثل الطريق الوحيدة المؤدية إلى اليقين. فالعقل، إذن، هادف، وهو ليس الآلة التي يتلاعب بها أصحاب المصالح أو العقول الزائفة. ولهذا فهم عبده الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على اعتبار أنه دعوة إلى تعميم التعليم، الذي يجعل من العلماء نخبة تقدم الاجتهاد على التقليد، ومن العامة جماهير واعية قادرة على التمييز والمحاكمة.

قال عبده بأولوية العقل على النقل، ولعل الاعتراف بعقل الإنسان المسلم هو الذي وضع في تأويلاته مساحة واسعة من التسامح، ناهياً عن الزجر والتكفير، فهو يقول: «ليس في الإسلام سوى سلطة الموعظة الحسنة والدعوة إلى الخير والتنفير من الشر، وهي سلطة خولها الله لأدنى المسلمين، يقرع بها أنف أعلاهم، كما خوّلها لأعلاهم يتناول بها من أدناهم». شجب الشيخ التكفير ورفض سلطة «المشايخ التقليديين»، الذين يعيّنون أنفسهم حراساً للضمائر والعقيدة والنفوس، مصرحاً بأنهم كانوا أدوات لـ«الأمراء والسلاطين»، الذين «استخدموهم لأغراضهم التي تؤيد سلطتهم ونفوذهم....».

الدفاع عن حرية الاختيار، والدعوة إلى تحرير المرأة، والقول بنسبية المعرفة، وإكبار العلوم العصرية.. كل هذه المقولات أوصلت الشيخ محمد عبده إلى «تخوم العلمانية»، كما يقول ألبير حوراني. لم يهوّن الشيخ من قيمة الدين والإيمان، لكنه طالب بإسلام، يبدأ من حقوق الإنسان والمواطنة، ويرى المدنية الغربية ويتعلم منها، ويقرأ داروين ولا يكفّره.. انطوى مشروعه على عناصر ثلاثة: التفاؤل بالمستقبل، لأنه اعتقد «أن جمود المسلمين علة تزول»، والسياسة التربوية التي تُصلح العقول و«لا تستثير العامة»، واعتبار الإصلاح الديني مدخلاً لإصلاح المجتمع والثقافة والسياسة. حلم بثورة ذهنية تحوّر الخطاب المعتاد ليكون مستساغاً لكل ذي عقل، داخل المجتمع الإسلامي وخارجه.

الشيخ محمد عبده: داعية الإصلاح الديني والانفتاح على المعارف
 
07-May-2009
 
العدد 75