العدد 75 - دولي
 

صلاح حزين

لم تستمر جورجيا طويلا في الإعلان عن أنها أحبطت محاولة انقلاب عسكري مدعومة من جارتها اللدودة روسيا انطلاقا من قاعدة «ماخروفاني» العسكرية لإطاحة الحكومة.

فبعد يوم واحد من ذلك الإعلان الذي تم الثلاثاء الماضي، عقد ناطق باسم وزارة الداخلية الجورجية مؤتمرا صحفيا تراجع فيه عما كان قد أعلن سابقا، وقال إن الأمر كان تمردا من جانب عدد من الجنود في القاعدة التي كانت في السابق قاعدة عسكرية روسية، وذلك بهدف إعاقة قيام دول في حلف شمال الأطلسي (الناتو) بمناورات عسكرية في جورجيا. وأضاف أن الجنود المتمردين قد سلموا أسلحتهم بعد أن تحدث إليهم الرئيس ميخائيل ساكاشفيلي، وهددهم باستخدام القوة ضدهم إن هم لم يلقوا أسلحتهم. بعد ذلك، ظهر الرئيس الجورجي على شاشة التلفزيون ليلقي كلمة للشعب قال فيها إن «الوضع الآن تحت السيطرة».

واتهم الناطق باسم وزارة الداخلية قائدا سابقا للقوات الخاصة الجورجية، هو جورجي غفالادزة، بأنه الرأس المدبر للمؤامرة، وأكد أن العسكري السابق هو الآن قيد الاعتقال، وبث شريطا يظهر فيه غفالادزة وهو يتحدث عن الانقلاب، مشيرا إلى أن التمرد الذي سيقوده سيلقى الدعم من جانب 500 جندي روسي.

ممثل روسيا في مقر حلف شمال الأطلسي في بروكسيل ديميتري روغوزين، علّق على الاتهامات التي أطلقتها جورجيا بأنها «ضرب من الجنون»، في حين وضع ديبلوماسي روسي سابق ما يجري في جورجيا منذ مدة، في إطار ما وصفه بـ«الحرب» التي يشنها المحافظون الجدد على إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما، التي أكد أنها تسعى إلى انتهاج سياسة جديدة تجاه جورجيا مخالفة لتلك التي كان ينتهجها الرئيس السابق جورج بوش، في إشارة إلى سياسة بوش التي هدفت إلى محاصرة روسيا بدول تنتمي إلى الناتو، ومن بينها جورجيا التي وعدها في وقت سابق من العام الماضي بالانضمام إلى الحلف، وهو ما وجد تحفظات من جانب عدد من دول الناتو في حينه.

مناورات الناتو التي يشارك فيها نحو 1300 جندي بدأت فعلا الأربعاء الماضي، وسوف تستمر حتى الأول من حزيران/يونيو المقبل. ورغم أن 19 دولة أعلنت استعدادها للمشاركة في المناورات، فإن عددا من الدول، منها دول كانت جزءا من الاتحاد السوفييتي السابق مثل: لاتفيا وإستونيا ومولدوفا وقزخستان وأرمينيا، وأخرى كانت جزءا من المعسكر الاشتراكي السابق مثل صربيا، أعلنت عن عدم مشاركتها في المناورات، حتى قبل أن تعلن جورجيا عن «إحباط المؤامرة الروسية».

رغم كل الضجيج الذي أثير حول المؤامرة المزعومة، سواء كانت بدعم روسي أم بهدف عرقلة مناورات الناتو على الأرض الجورجية، والتي لم تكن روسيا سعيدة بها على أي حال، فإن من يتابع الشأن الجورجي عن كثب، سوف يضع الأمر كله في إطار الوضع المضطرب الذي تعيشه الجمهورية السوفييتية السابقة منذ سنوات، وبخاصة منذ العام 2007، هو العام الذي بدأت فيه المعارضة الجورجية حملة منظمة لإسقاط ساكاشفيلي بالطريقة نفسها التي أسقطت فيها جورج شيفارنادزة، الرئيس الجورجي السابق، من خلال «ثورة القرنفل» التي قادت ساكاشفيلي إلى الحكم العام 2003. ففي العام 2007 بدا النظام الذي بشر بالديمقراطية طريقا للحكم، قمعيا مثل أي نظام سلطوي آخر، حين قمع متظاهرين معارضين لساكاشفيلي بعنف لم تشهده البلاد منذ ثورة القرنفل الشهيرة التي أتت بفريق من السياسيين الذين تلقوا تعليمهم في الولايات المتحدة إلى الحكم وعلى رأسهم ساكاشفيلي.

ورغم تدني شعبيته في بلاده، فإن الرئيس الجورجي نجح في الانتخابات التي جرت في مطلع العام الماضي بأغلبية لا تقارن بذلك الفوز الكاسح الذي كان قد حققه في العام 2003، ولم تفلح المعارضة في سعيها للتشكيك في نتيجة الانتخابات، فعادت إلى البيوت بعد اعتصامات في الشوارع أياما طويلة، وبقيت كامنة حتى استيقظت على حرب أشعل فتيلها ساكاشفيلي، في الصيف الماضي، مع روسيا التي كانت تنتظر فرصة ثمينة مثل هذه، فكان أن ساعدت إقليمي أوسيتيا الجنوبية وابخازيا على الاستقلال عن جورجيا واعترفت بهما دولتين مستقلتين.

خسارة جورجيا الحرب مع روسيا وخسارة إقليمين مهمين من أقاليمها، هي الدولة الصغيرة أساسا، أثارت موجة سخط واستياء عارمة ضد ساكاشفيلي بسبب ما وصفوه بالرعونة في إدارة الصراع مع روسيا، التي تبقى دولة إقليمية كبرى، واستفزازها من دون أن يأخذ في الاعتبار موازين القوى بين البلدين والجيشين، ولا الاعتبارات الإقليمية التي تحكم التعامل بين البلدان، ولا موازين القوى الدولية، فكانت النتيجة الهزيمة في الميدان العسكري، والإذلال على المستوى السياسي والخسارة على المستوى الجغرافي.

في آذار/مارس الماضي عادت المعارضة إلى التظاهر والاحتجاج مطالبة باستقالة ساكاشفيلي، ولكنها عادت بعد ثلاثة أسابيع من الاحتجاجات المتصلة إلى الهدوء، فهي لا تمتلك من القوة الجماهيرية أو البرلمانية ما يمكنها من إطاحة ساكاشفيلي الذي لن تنتهي ولايته قبل العام 2013.

المعارضة التي لا تمانع في الانضمام إلى حلف الناتو، والتي لا يمكن اتهامها بتلقي الدعم من روسيا، تمكنت من وضع الضجيج المثار حول «المؤامرة الروسية» في حجمها الطبيعي، وهو سعي ساكاشفيلي إلى تشتيت الانتباه عن الوضع الداخلي الذي لا يشهد عدم استقرار سياسيا فقط، بل ووضعا اقتصاديا كارثيا، بشهادة البنك الدولي الذي حذر جورجيا من الاستمرار في سياستها الاقتصادية الراهنة التي أورثتها مديونية تثقل كاهل النظام الذي ينخره الفساد، ومن أن القادم من الأيام لن يكون أفضل بكثير مما هو الآن.

غيا كاركرشفيلي، وزير الدفاع الجورجي السابق، الذي انشق عن النظام الذي كان ركنا أساسيا من أركانه، أعلن تشككه في المزاعم التي أطلقها النظام، ملمحا إلى أن الأمر كله مفبرك داخل أجهزة الحكومة، «فجورجيا اليوم يحكمها عدد من المرضى الذين يضعون السيناريو ويلعبون الأدوار الرئيسية في فيلم يعرضونه على الناس لتخويفهم» كما قال.

ومن الواضح أن وزير الدفاع السابق كان يلمح إلى حقيقة أن الفبركات الإعلامية التي تستخدم فيها أشرطة سمعية وبصرية، حول وجود مؤامرات تحاك ضد ساكاشفيلي تحولت إلى ممارسة مكشوفة، ففي شهر آذار/مارس الماضي قبضت السلطات الجورجية على تسعة أعضاء في «التحاف الديمقراطي»، وهو تنظيم معارض، بتهمة شرائه لأسلحة، تمهيدا لاستخدامها في التظاهرات التي جرت في شوارع المدن الجورجية في شهر آذار/مارس الماضي، وهو ما نفاه زعيم التنظيم نينو برجانيدزة، الذي كان حتى وقت قريب أحد أقرب حلفاء ساكاشفيلي. لم ينس النظام في حينه أن يستخدم شريطا مصورا لدعم اتهاماته التي ثبت أنها غير صحيحة.

مع أن ساكاشفيلي يبدو ثابتا في موقعه رئيسا لجورجيا حتى فترة غير منظورة، فإن المعارضة التي تتعاظم يوما بعد يوم في شوارع العاصمة تبليسي، وتصاعد حالة عدم الرضا عن سياساته، وبخاصة فيما يتعلق بالتعامل مع روسيا، وعدم تحقيقه أي إنجاز يذكر منذ وصوله إلى السلطة قبل ست سنوات، والاحتجاجات الجماهيرية التي ما أن تهدأ حتى تعود من جديد، وازدياد حالات الانشقاق عن النظام والانضمام إلى صفوف المعارضة من جانب أخلص حلفاء ساكاشفيلي، تجعل الاستمرار بالنسبة له مسألة وجود. وفي سبيل المحافظة على الوجود فإن ساكاشفيلي يعمد، بين حين وآخر، إلى فبركات مثل تلك التي أشار إليها وزير الدفاع السابق غيا كاركرشفيلي، فمن دون هذه الفبركات يبدو أن ساكاشفيلي لن يستطيع الاستمرار وبالفبركات يخسر كل يوم حليفا وثيقا.

الجمهورية السوفييتية السابقة أسيرة اضطراب دائم جورجيا وروسيا: اتهامات متبادلة على وقع مناورات الناتو
 
07-May-2009
 
العدد 75