العدد 73 - حتى باب الدار
 

المركزية في الأردن ليست مركزية كثيراً، أو ربما هي في التطبيق مركزية حسب الرغبة، وبمقادير تحدد في كل حالة على حدة، فالإدارة في الأردن قابلة نظرياً لأن تكون مركزية، فهناك ما يكفي من القوانين بما يسمح لأي قرار أو توجه أو إجراء أن يكون مركزياً، أو أن لا يسمح له بالنفاذ إلا إذا كان مركزياً. لكن من الناحية التطبيقية هناك القليل من المركزية، بل بالعكس فإن البلد يعاني من فائض في اللامركزية، لكنها لامركزية من نوع خاص.. وتعالوا نوضح أو ننتبه الى الأمر معاً.

من موقع الاقتدار

المسؤول الكبير في الدولة يمارس عمله وفق مبادئ غير مكتوبة غنية بعناصر ومميزات اللامركزية، لكنها لامركزية من موقع الاقتدار، أي مع احتفاظ المسؤول الكبير في المركز بحقه بأن يعيد الأمور الى مركزها.. أي اليه شخصياً.

يحب المسؤول الكبير في الأردن أن يقوم بعمله بأقل مستوى ممكن من «وجع الراس»، وهذا في التطبيق يعني أن هذا المسؤول مستعد لأن يعطي صلاحياته لمرؤوسيه، وأن يخفف من المركزية بشروط أساسية منها أولاً أن لا يتسببوا له في أي ورطة، وثانياً أن لا يعتقد المرؤوس أن بمقدوره «تطنيش» رئيسه كما يحلو له، وثالثاً أن يبقى المسؤول «في الصورة» وبخاصة عند حدوث مشكلة أو مشاكل.

المشهد الإداري من الأسفل لا يختلف جوهرياً عنه من الأعلى، ففي كل دائرة بعيدة عن المركز يتواجد موظف واحد على الأقل يُعْرَف بأنه «يمون» أو أن خيوطه مفتوحة «مع اللي فوق» أي مع المركز، وأن مسؤوله المباشر يعرف ذلك لكنه يفضل «التطنيش»، وهذا التطنيش يختلف من حيث المواد الخام المكونة له، عن التطنيش السابق الخاص بكبار المسؤولين في المركز. إن التطنيش من قبل المسؤول في الفروع يكون من موقع الضعف، بعكس التطنيش في المركز.

صاحب قرار

ومن مظاهر اللامركزية التطبيقية في الأردن أن المسؤول في الفروع، يستهويه أن يوصف بأنه «صاحب قرار». هذه الصفة يحوزها المسؤول بمقدار ما يتخذ من قرارات لامركزية، حتى وإن كان فيها تجاوز لصلاحياته، وفي كثير من الأحيان يلجأ المسؤول في الفروع الى الطلب من المواطن صاحب العلاقة بالقرار أن يبقي الأمر سراً عن الآخرين... «ليس خوفاً من الإدارة، لا والله! لكني لا أريد أن أفتح على حالي مِدْبَرَة».

إن بمقدور المسؤول في الفروع أن يستجيب للنداء المعروف القائل: «دبرها من عندك»، وهو النداء الذي يتخذ أحياناً صيغة سؤال كالتالي: «ما بتقدرش تْدبّرها من عندك؟»، وفي الحالتين فإن المسؤول يوضع أمام اختبار في مستوى «الميانة» الذي يتمتع به، وهو اختبار في المحصلة يصب في اللامركزية المنشودة.

بحبش وراها

إن كثيراً من القرارات والتوجهات في الدوائر الفرعية تخضع للقاعدة الأردنية المعروفة في مجال الإدارة العامة، التي تقول «ما حدا قاري خط» أو «ما حدا بتابع وراك» أو «إذا ما حدا نكشها بتمشي». ويعرف الجميع أنه إذا حدث وانتبه المركز الى مخالفة إدارية وقعت في أي فرع، فلا بد أن أحداً ما «بَحْبَش وراها». وبالطبع ينقسم «المبحبشون وراها» الى صنفين: الأول يتبع المواطن صاحب العلاقة، والثاني يتبع المسؤول، وبخاصة من خصومه الذين ينافسونه على منصبه. أما الوضع الطبيعي فإنه يبقى خاضعاً لقاعدة «إذا ما انتكشت بتمشي».

وحتى في المركز فإن الميل العام في الممارسة الإدارية هو نحو «تمرير الأمور»، لكن بشرط ضمان أن تجري هذه الأمور «على السكيت». وقد يتلقى المراجع للمركز تطمينات بأنه يكفي أن «يشرحوا عليها» في الفرع بأية صورة من الصور.

إن الإكثار حالياً من الكلام عن اللامركزية، سوف لا يعني في التطبيق سوى خلخلة هذه الأسس غير المكتوبة، التي وفرت للبلد لامركزية مرنة للغاية، ولا يمكن لأية تشريعات أن ترقى اليها، فقد بنيت عبر عقود طويلة واستندت الى ثقافة شعبية، بل أسهمت من جهتها في إغناء هذه الثقافة بالمزيد من العناصر.

هل لدينا مركزية أصلاً كي ننادي باللامركزية؟
 
23-Apr-2009
 
العدد 73