العدد 72 - ثقافي
 

مراجعة: منى ميخائيل *

نُشر هذا الكتاب الضخم أصلا العام 2001 بغلاف من الورق المقوى، متضمنا ما يزيد على الأربعين مقالة ودراسة كانت نُشرت سابقا، مقدمة نظرات نافذة جديدة لمثقف عظيم هو إدوارد سعيد. تمثل المراجعات والمقالات والدراسات شهادات إضافية على ثقافته ونظراته التحليلية، وتنجح في فتح آفاق جديدة لقرائه ومحبيه، الذين سيتأكدون من سحره المتبدي في هذه القراءات المحكمة والموسعة في الوقت نفسه.

المعضلة التي يواجهها من يقدّم هذا العمل المكون من مختارات لهذا المؤلف المكرس، تصبح مضاعفة، في حال اقتطاف بعض جمله المطولة، وإدراك أن المرء يمكن بالكاد أن يعطيه حقه.

تتناول مجموعة المقالات العديد من القضايا والموضوعات؛ غير أن تعليقا في نهاية الكتاب شجعني على التركيز على المقالات التي تتناول الأدب العربي تحديدا، وآداب الشرق الأوسط عموما: كثيرا ما كان لدي طموح لتخصيص دورة للأدب العربي الحديث، فقد كتبت الكثير عن الأدب العربي وآداب الشرق الأوسط، لكنني، وعلى مدى ستة وثلاثين عاما عملت فيها في التدريس، لم أقم بتدريس الشرق الأوسط، فعمل المرء التخصصي دائما ما يتأثر بخلفيته وباهتماماته غير الأكاديمية.

لا شك أن حقول دراسات الأدب العربي والشرق الأوسط قد اغتنت بهذه المساهمات، غير أنه كان من الممكن الاستفادة أكثر لو أنه أولى مزيدا من الانتباه والحساسية لهذه الفروع من الدراسة التي تناولها بذكاء وقّاد في الدراسات التي ضمها هذا الكتاب.

كثير من المقالات تتضمن نظرات نقدية، ففي «النثر العربي والرواية العربية بعد العام 1943»، يحاول سعيد الإجابة عن السؤال المعذّب عما إذا كانت الرواية العربية تقليدا أم أعمالا أصلية. وسرعان ما ينحي جانبا هذا الجدال العقيم بقوله: «إن الأدب بمجمله، وبمعنى ضيق ومحدد من المحاكاة، هو نسخة عن شيء ما» (ص 42). وفي «ما بعد محفوظ» يرسخ سعيد علاقة الأجيال بين العجوز الكبير وخلفائه من أمثال جمال الغيطاني. وفي «تمثيل المستعمَر» يكرس رواية غسان كنفاني «رجال في الشمس» بوصفها الأكثر ذكاء من بين جميع السرديات الفلسطينية. ويلاحظ سعيد أن كتّابا مثل إميل حبيبي وغسان كنفاني وإلياس خوري يلجأون إلى السخرية والمبالغة بسبب الأوضاع الصعبة التي تعيشها مجتمعاتهم. وهو يقرأ رواية الطيب صالح «موسم الهجرة إلى الشمال» بوصفها استرجاعا لكونراد واستعادة له، وينصح بقراءتها مع أعمال أخرى إفريقية وهندية وكاريبية.

إنه يدعو إلى استعادة هذه الأعمال وإعادة وضعها في إطار عالمي، فهو يدعو إلى مزيد من التدقيق في هذه الأعمال بوصفها «أدبا وأسلوبا ومتعة»، كما أنه يدعونا إلى إبعاد أنفسنا عن مجرد النظر إليها بوصفها أعمالا «تقدم معلومات، وعينات إثنوغرافية تناسب الانتباه المحدود للخبراء والمختصين في المنطقة» (ص 382).

في الفصل المخصص لـ«المواجهات العربية الإنجليزية»، ينعى سعيد ندرة الأعمال الروائية التي كتبها بالانجليزية كتّاب عرب، مقارنة بتلك المكتوبة بالفرنسية. لكنه ينتبه إلى الجزء الأهم من الأعمال المتخصصة التي كتبها عرب بالإنجليزية، ويتحدث بإعجاب عن الأعمال المبكرة التي قدمتها أهداف سويف، وبخاصة رواية «في عين الشمس»، مؤكدا بوضوح أنها رواية عربية، فأهداف سويف بالنسبة له حققت إنجازا كبيرا باعتماد أسلوب نقي «ثنائي الهوية» تماما. كما أنها تنجح في تقديم تجربة في «العبور من جانب إلى آخر.. من دون حقد أو وعظ» (ص 410).

هنالك جانب ساحر آخر في كتابات سعيد، هو اهتمامه بالسينما، وقراءته الثاقبة للأفلام العربية والغربية. في مراجعته لسلسلة من الأفلام التي قدمها متحف متروبوليتان في نيويورك، بمناسبة عرض أعمال فنية فرعونية، يعلق قائلا إن الاهتمام المعاصر الكبير في مصر القديمة هو «رغبة مستمرة لتجاوز هوية مصر العربية» (ص 160). وأنا واثقة من أن كثيرين يمكن أن يجادلوا بأن الهويتين ليستا خاصتين بالمقدار نفسه! ويحاول فك أسرار فيلم شادي عبد السلام الكلاسيكي «ليلة عد السنين» المعروف عربيا باسم «المومياء».

الفيلم، الذي تُستخدم فيه اللغة العربية الفصحى بدلا من اللهجة المحكية، يحوّل اللغة الوسيطة من لغة للاتصال إلى عرض محايد (ص 159)، ويعدّ سعيد العمل سياسيا تماما. كما أنه يبدو ساخرا في تصويره فيلمَي «كليوباترا» (1936) و«الوصايا العشر» (1956) للمخرج سيسيل دي ميل، حيث لعب الممثل تشارلتون هستون دور النبي موسى.

ويعالج سعيد الحالة البائسة للجامعات العربية، التي دفعت ثمنا غاليا بسماحها للرغبات السياسية وأيديولوجيات التلاؤم للهيمنة، فيسهب في الحديث عن دور الجامعة الأميركية، والمساحات التي تحتلها، والتناقضات النظرية بين بعض المساقات مثل الأنثروبولوجيا، وبين معضلة ارتباطها بالسياسة العامة.

في «عودة إلى الاستشراق»، يعترف سعيد بتواضع بأن جوهر ما قاله كان قد قاله من قبل آخرون مثل عبد الله العروي وأنور عبد الملك وطلال أسد (ص 202). وفي الفصل الأخير من الكتاب يعرّي سعيد نظرية «صدام الحضارات» الضارة، داعيا بدلا من ذلك إلى التصالح والانسجام، وإظهار كيف أن الفصل الصارم المفترض بين الحضارات يصبّ في مجرى مضاد لعالم الامتزاج والهجرات. ويحول سعيد، المحاور النموذجي، منفاه إلى نقيض ثري.

قسم دراسات الإسلام والشرق الأوسط، جامعة نيويورك، نيويورك

ملاحظة من المحرر: اعتادت المجلة الدولية لدراسات الشرق الأوسط على مراجعة الكتب التي لم يمضِ على صدورها أكثر من ثلاث سنوات، لكننا ننشر هذه المراجعة نظرا للظروف المخففة التي منعت نشره في وقت مبكر.

* بالتعاون مع:

المجلة الدولية لدراسات الشرق الأوسط

International Journal of Middle East Studies

محاور نموذجي يحوّل منفاه إلى نقيض ثري
 
16-Apr-2009
 
العدد 72