العدد 71 - دولي
 

ستيفن غلين

في ربيع العام 1999، خلال الحرب في كوسوفو، ذهبت في مهمة إلى بروكسل لتغطية قصف منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) لأهداف صريبة. ولأسابيع عدة قابلت دبلوماسيين وملحقين عسكريين في ممرات مقر حلف الناتو وألححت عليهم في معرفة المزيد عن آخر التعرجات والتحولات في الحملة؛ هل سيجبر الهجوم المستمر الزعيم الصربي سلوبودان ميلوشيفتش على وقف هجومه على الانفصاليين الألبان؟ وإن كانت الأجابة لا فهل سيتدخل الناتو بقواته الأرضية؟

حضرت الإيجازات اليومية التي كان يقدمها الناطق باسم الناتو جامي شيا، وقضيت يوما في مقابلة مسؤولين عسكريين في مون، حيث مركز عمليات الحلف. كانت تلك مهمة رائعة، فكم مرة يمكن للمرء أن يخالط شخصيات عالمية ساحرة في قلب أوروبا؟ ولكن بالنظر إلى تلك الأيام، فإن ما أتذكره بوضوح أكثر من أي شيء آخر، هو الإحساس بحالة الطواريء التي تحيط بالمكان. نعم، كانت هناك أزمة في البلقان التي كانت تنتظر الحل، ولكن كانت هنالك أيضا الحاجة الملحة بين مسؤولي الناتو لإظهار أن الحاجة إليهم مازالت ماسة في صورة ما بعد ثمانية أعوام من انتهاء الحرب الباردة.

لم يكن الناتو قد حافظ على نفسه سليما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي فقط، بل إنه توسع في واقع الأمر، ومن خلال عبارات مستهلكة تتجه نحو التشاؤم، مثل القول إن ألمانيا موحدة قد تقود إلى بروز “رايخ رابع”، إن لم يكن هنالك تحالف قوي يتعامل معها بعضلات سياسية مثل متعهدي الدفاع الأميركييين، تمت خطوات الإلحاق السريع لبولندا وجمهورية التشيك وهنغاريا بالناتو. لقد امتدت الهيمنة الأميركية إلى ما كان يعتبر البوابة الأمامية لروسيا، وقد حذر معارضون لهذه الخطوة، وهم مجموعة من المختصين في الشؤون السوفييتية و”واقعيي” السياسة الخارجية، من أنه قد يأتي يوم تشعر فيه موسكو بالاستفزاز، ولكن التجاهل كان مصير التحذير.

إلى ذلك، فإن حرب كوسوفو كشفت عن اتجاه خاطيء في صفوف حلف الناتو. كان الأميركيون يتذمرون من أن الأوروبيين قد فشلوا في استثمار إمكاناتهم العسكرية في صورة مناسبة، تاركين للولايات المتحدة تحمل عبء القصف. أخبرني دبلوماسيون، بصوت منخفض، أن الحملة على كوسوفو سوف تمثل عنصر إيقاظ للحلف، وأن الناتو كان على حافة الفشل في اختباره الأول منذ انهيار الاتحاد السوفييتي، فإن لم يؤد ذلك إلى تركيز الأذهان في العواصم الأوروبية، فمن المؤكد أن الناتو لن يستمر.

ولقد قمت بواجبي في أخذ ملاحظات بذلك، لكنه كان شيئا بائسا.

كان ذلك قبل عقد مضى، وفي الأسبوع الماضي، وبمناسبة الذكرى الستين لتأسيس الناتو، زار الرئيس الأميركي باراك أوباما ستراسبورغ، في فرنسا، للاحتفال بالقوة الباقية من عهد الحرب الباردة، لقد وجدت معاهدة للدفاع، كان المقصود منها أن تكون قوة مواجهة لخصم مات منذ زمن بعيد، بفضل هجمات الحادي عشر من أيلول/سبتمبر والحرب في أفغانستان، حياة جدية تحياها. الإمبراطوريات تنهض وتنهار، وأنواع بأكملها من الأحياء تأتي وتذهب، أما الأنواع العسكرية القوية، فيبدو أنه تبقى إلى الأبد.

اليوم، يستهلك الناتو نفسه في حرب مختلفة، ولكن توترات دول المنطقة الواحدة تبقى. ففي العام 1999، كانت الولايات المتحدة تشكو من أن الأوروبيين يعودون للاحتماء بمظلة أمان وفرتها لهم الولايات المتحدة. لقد أرادوا من الحلفاء أن يستثمروا في تكنولوجيا الجيل الثاني، بما في ذلك مراقبة وشحن الطائرات وقيادة الأنظمة التي أرادوا لهم أن يشتروها من متعهدي التصنيع للجيش الاميركي والتحكم فيها، بدلا من أن يطوروها محليا. كان ذلك مهما، كما قال الأميركيون، لضمان قدرة التحالف على القيام بمهماته المتداخلة، ومن نافل القول إن متعهدي تصنيع الجيش الأميركي سوف يقبلون.

لم يتغير شيء، فالمنتسبون الجدد إلى التحالف تحدوا واشنطن بشرائهم طائرات مقاتلة نفاثة غير أميركية ببلايين الدولارات. (“نحن لسنا مجرد سوق لشركات الدفاع الأميركية”، قال لي سفير هنغاريا في مكتب الاتصال الهنغاري في الناتو خلال الحملة على كوسوفو. “حين يخيب أمل الناتو فإنني أهتم، ولكنني لا أهتم إذا ما خاب أمل شركة لوكهيد مارتن.)

وفي أفغانستان، يتم فصل الوحدات التي تشكل القوات المشاركة في التحالف عن بعضها لأن أسلحتها، من أجهزة الاتصالات إلى الأسلحة، تعمل وفق معايير مختلفة وموجات مختلفة.

وعلى الرغم من بلاغة المناشدات التي يطلقها الرئيس أوباما، فإن كثيرا من الدول الأعضاء في الحلف الذي تقوده الولايات المتحدة، يفقدون الاهتمام بالحرب في أفغانستان. ولا ينتج عن قمة ستراسبورغ سوى القليل على طريق تقديم التزامات أوربية قليلة بالصراع الدائر منذ ثماني سنوات، والذي تعهد أوباما بتعزيزه بنحو 21 ألف جندي خلال العام الجاري. الحرب في أفغانستان تصبح أميركية في الوقت الذي يرى فيه خبراء عديدون أنها حرب لا يمكن كسبها.

قد لا تكون أفغانستان بالضرورة المكان الذي تموت فيه الإمبراطوريات (لقد بقي المغول هناك من القرن الثالث عشر وحتى الخامس عشر)، ولكنها قد تكون كافية لدفن رئاسة أوباما.

وعودة إلى تلك الأيام، فإن من الواضح أن الحرب على ميلوشيفيتش كانت لحماية مصدر حياة لحلف الناتو أكثر منها لتحقيق مصالح استراتيجية لأعضائه. مصرا على استخدام القوة المسلحة بوصفها هدفا في حد ذاته، قال السناتور جون ماكين، في ذلك الوقت، إن أي حصة حيوية قد تحصل عليها الولايات المتحدة من البلقان، إنما هي أقل أهمية من إظهار القوة الأميركية المجردة في اللحظة التي تهدد فيها واشنطن بشنها. “إن الصدقية قيمة استراتيجية من الطراز الأول”، قال ماكين “وهي تستحق القتال من أجل الحفاظ عليها.”

وبالرغم من المستنقع الذي تلوح آفاقه في أفغانستان، فإن كارثة العراق، والحرب الروسية القصيرة، لكن الوحشية مع جورجيا في العام الماضي، ومستحضري الحرب الباردة مثل ماكين، ما زالوا يلوبون لبدء حرب مع موسكو من خلال مد عضوية الناتو إلى جورجيا وأوكرانيا. ويأمل الواقعيون في أن تكذب بلاغة أوباما حول الصدقية الثمينة للناتو مشاعرهم الغريزية الواضحة، الباردة والواقعية.

بدلا من توسيع الناتو، على الولايات المتحدة فك الارتباط التدريجي معه. على واشنطن أن تنهي خططها لبناء نظام دفاع صاروخي من الواضح أنه سيكون مكلفا جدا، وغير مجرب ومستفز من دون داع لروسيا. وعلى الرغم من احتمال إجراء تخفيضات في موازنة البنتاغون، فإن الولايات المتحدة سوف تظل تدفع نصف نفقات الدفاع في العالم. وهذه الحقيقة، إلى جانب الاقتصاد الأميركي المريض، يجب أن تجبر البيت الأبيض على العودة إلى سياسة دفاعية عقلانية توازن بين الالتزامات والموارد.

60 عاماً على الناتو: ذكرى منظمة من زمن الحرب الباردة
 
09-Apr-2009
 
العدد 71