العدد 10 - ثقافي
 

بين إعلان فوزها بجائزة سلطان بن علي العويس الثقافية للإنجاز الثقافي والعلمي قبل أيام، وانطلاقتها في الميدان الذي كرّست له حياتها قبل زهاء نصف قرن، مسيرةٌ أرادت لها الدكتورة سلمى الخضراء الجيوسي أن تكون مما يمكث في الأرض، فيما هي تتنقل من الشعر إلى النقد، ومن تأريخ الأدب الحديث إلى البحث والترجمة، ومن الإشراف على الأنطولوجيات الموسوعية إلى الاشتغال على التراث، بينما تنبعث في وجدانها إزاء ذلك كله مشاعرُ مختلطة، من أبرزها على حد تعبيرها «الطمأنينة» بأنها أدت رسالتها وخدمت قضيةً تؤمن بها. وهي رغم المنجَز القارّ الذي تواصل العمل عليه، ترى أن كل ما فعلت لم يكن أكثر من بداية: «إنه إعداد لشيء أكبر بكثير من قدرة فرد واحد، وقد لا يجد طريقه أبداً إلى الاكتمال».

وكان قد تقرَّرَ منحُ سلمى جائزة العويس «تقديراً واعترافاً بدورها الريادي في خدمة العلم والثقافة ونشرهما في الوطن العربي والعالم»، ووفقاً لتقرير مجلس أمناء الجائزة: «علاوة على دورها الشعري والنقدي في العالم العربي، فإن ريادة سلمى الجيوسي غير مسبوقة في التصدي متفردةً للتعريف بالثقافة والحضارة العربية والإسلامية في الغرب، وإعادة الاعتبار إلى هذه الثقافة سواء من خلال ترجمة الأعمال العربية الفكرية والأدبية إلى اللغة الإنجليزية أو من خلال مشاريعها البحثية والدراسية كمشروع (بروتا) و(رابطة الشرق والغرب)، وإسهاماتها في نشر الموسوعات والبحوث المتعلقة بالحضارتين العربية والإسلامية وبالأدب العربي المعاصر».

شهدت بدايات سلمى المولودة في مدينة السلط الأردنية العام 1928 اهتماماً خاصاً بالشعر، فأصدرت مجموعتها الأولى -والأخيرة- فيه «العودة من النبع الحالم» في العام 1960، لكنها تحولت عنه بعد أن أجرت عليه «حكماً جارحاً» بحسب تعبيرها. فكانت إذا جاءتها القصيدة تؤجّلها ريثما تنتهي من هذا ومن ذاك، غير أن لحظة الإبداع هشّة ولا تطيق التأجيل كما ترى.. «لذا ضحّيت بما لا يُضَحّى به حتى أنجز ما يجب أن يُنجَز»، تقول، مضيفةً في السياق نفسه: «لو كنتُ أعيش في زمن رخيٍّ أتمتع باستقرار الوطن جميعه وتقدمه المستمر، لما اخترتُ إلا الإبداع تعبيراً عن تجارب الحياة، ولكني ابنة هذه الأرض. وقد درت العالم ورأيت وسمعت وأدركت أنه لن يقوم بنا إلا العمل المستمر للدفاع عن شرفنا المغتصَب وسمعتنا الحضارية وإنجازاتنا الزاهرة».

وقال عبد الحميد أحمد، الأمين العام لمؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية، إن سلمى يُنظر إليها «بوصفها رائدةً خدمت وما تزال تخدم الثقافة العربية بما تقدم من إسهامات فردية تعلو إلى مصاف المؤسسات»، وأن أعمالها الريادية «جديرة بالتقدير والاعتزاز». جاء ذلك في المؤتمر الصحفي الذي أُعلن فيه أيضاً عن فوز جمعة الماجد بالجائزة نفسها، لإسهاماته الريادية أيضاً.

إلى ذلك، يتسم «منجز» سلمى، رغم صدوره عن جهدٍ فردي، بأنه ناتجٌ عن شمولية و«استراتيجيات» وبُعد نظر، فضلاً عما يشتمل عليه من الدقّة والنزاهة والاحتكام إلى المعايير النقدية الصارمة.

وكانت سلمى أكملت تعليمها الثانوي في كلية شميت الألمانية بالقدس، ثم توجّهت لدراسة الأدبين العربي والإنجليزي في الجامعة الأميركية ببيروت، ثم إلى لندن، حيث حصلت على درجة الدكتوراه في الأدب العربي، لتعمل بعد ذلك أستاذة للأدب العربي في عدد من الجامعات العربية والأميركية، قبل أن تتفرّغ لمشروعها الكبير «بروتا».

ترجمت سلمى في مطلع الستينيات عدداً من الكتب عن الإنجليزية، منها كتاب لويز بوغان «إنجازات الشعر الأميركي في نصف قرن» (1960)، وكتاب رالف بارتون باري «إنسانية الإنسان» (1961)، والجزأين الأولين من «رباعيّة الإسكندرية» للورانس دريلم «جوستين» و«بالثازار» (1961 – 1962). ثم «هكذا خلقت جيني» لأرسكين كالدويل (1961)، و«والت ويتمان» لريتشارد تشيس (1962)، و«الشعر والتجربة» لآرشيبالد ماكليش (1962).

وفي العام 1977 نشرت «الاتجاهات والحركات في الشعر العربي الحديث» في جزأين، وقد تُرجم هذا الكتاب إلى العربية، وصدر عن مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت.

أنشأت سلمى مؤسسة «بروتا» (مشروع الترجمة من العربية) في العام 1980، انطلاقاً من شعورها بالحاجة الماسّة لوضع الكتاب العربي الجيد على رفوف المكتبة العالمية. وكان الحافز المباشر له كما تتذكر، عبارةً مهينة تلفّظ بها أحد الطلبة في جامعة تكساس عن الثقافة العربية، عندما سمعتها سلمى تركت التدريس وقررت أن تحاول تغيير هذه «الخريطة البائسة» ما استطاعت. ورغم أنها وجدت استجابة من بعض العرب، واهتماماً من دور النشر الغربية الكبيرة، إلا أن المشروع لم يكن ليستمر بالتأكيد –وكما تقرّ بنفسها- لولا عنادها وملاحقتها و «الحجة المنطقية» التي كانت تواجه بها المسؤولين العرب. ومن حسن حظّها، على خلاف كثيرٍ من الكتّاب والباحثين العرب، لا تجد سلمى صعوبةً في النشر، إذ تجد الناشر أحياناً كثيرة قبل البدء بالكتاب، ولذا تراها تُقبل على المشاريع واحداً بعد الآخر، دون تردد أو خوف فيما يتعلق بالنشر.

وخلال زمن قياسي، لكنه مملوء بالهمة العالية والتصميم، حررت سلمى أكثر من 40 عملاً من أعمال «بروتا»، ومن بين هذه الأعمال سبع موسوعات ضخمة للأدب العربي الحديث وهي: «الشعر العربي الحديث» (93 شاعراً)، «أدب الجزيرة العربية» (95 شاعراً وقاصاً)، «الأدب الفلسطيني الحديث» (103 شاعراً وكاتباً)، «المسرح العربي الحديث» (12 مسرحية، بالاشتراك مع روجر آلن)، «القصة العربية الحديثة» (187 إدخالاً)، ثم المسرحيات العربية القصيرة (20 مسرحية).

ثم أخذتْ سلمى على عاتقها تحرير كتاب شامل حول الحضارة العربية الإسلامية في الأندلس، وقد تمخض عن هذا التوجه أن أنشأت سنة 1992 مشروع «رابطة الشرق والغرب» للدراسات، وأصبح متوفراً لديها عدد من الكتب المشتملة على دراسات حضارية. فعدا الكتاب الشامل حول الأندلس، نشرت عدداً من الكتب، منها كتاب جامع حول «حقوق الإنسان في الفكر العربي»، وآخر حول «القدس في التاريخ والتوراة».

ولا تتردد سلمى في أن تكشف عن خيبتها لأنّ الرسالة الأساسية التي كرّستْ لها هذه السنوات الكثيرة من حياتها، لم تُصِبْ بالعدوى إلاّ عدداً قليلاً من المسؤولين. تقول في ذلك: «إنها رسالة مكرّسة لمقاومة الجهل الفادح بنا في الخارج، ونشر أرقى ما عندنا من أدب وإبداع في العالم، ومن إرثٍ روحي ومزايا إنسانية قَلَّ مثيلها في القرون الوسطى، حتى نحبط ولو شيئاً من المخطّطات الحثيثة التي تَرْسُمُ لنا، بشكل متزايد كل يوم، صوراً مشوّهة مبنيّة على الكذب وعلى استغلال اللحظة السياسية المناوئة لنا وشحنها بالمزيد من الإعلام الكاذب».

وترى سلمى أن وضع الثقافة العربية متردٍّ، ويدعو إلى اليأس. وتضيف في السياق نفسه: «امتلأ الجوّ بالمفسدين المعادين لنا، وهُم من صلبنا ومن أبناء أمتنا، ويعملون بشكل يستطيع الذكي الحريص أن يكشفه بسهولة، إلا أننا لا نكشفه على الإطلاق». لذلك تنظر إلى عملها في «بروتا» بوصفه «إعلاناً عن رفض وضعنا الثقافي في العالم، وكشفاً فاضحاً للدور العربي قاصر الرؤيا الذي يكمن وراء هذا الوضع».

وخلال مسيرتها الحافلة بالمنجزات، كرّست سلمى موقفاً ضدّياً نهائياً مما تدعوه «الفكر التعميمي»: «الفكر السهل، شديد الرسوخ، الخالي من كل نكهة وطلاوة واقتحام متجدد للعالم وسؤال جريء إزاء ما ترسّخ في العقول الراضية بمفاهيمها الملقّنة هو أشدّ ما أبغضه». وهي تعترف أن «أفدح ما يشاهده الإنسان في الوطن العربي هو تلك القدرة على التقية، ومحاذرة التصريح بما يحدّ من حرية الإنسان في كل مجالات الحياة ابتداءً من المنزل». وتزيد: «كل شيء مرتّب حسب المعايير المناقضة لهذا الأمر. الفضائل المعتَبَرة هي الفضائل السكونية، لا سيما عند المرأة. غير أن أقوى الفضائل هي الهجومية على سلبيات الحياة، هي الفضائل المناقضة، المقاتلة. يكاد العالم يفترسنا، ولم يعد لدينا وقت على الإطلاق لمتابعة سكونية الموقف وفلسفة القبول».

وتعمل سلمى حالياً على غير مشروع، وتفكّر في مقترحات لكتب جديدة تهدف إلى تقديم صورة مشرقة عن الإسلام للغرب، وهناك في جعبتها قيد الإعداد، كتاب كبير جداً حول «المدينة في العالم الإسلامي»، وآخر حول «الفن القصصي العربي في العصور الكلاسيكية».

 

جعفر العقيلي

الجيوسي.. جهد ثقافي فردي
 
17-Jan-2008
 
العدد 10