العدد 70 - أردني
 

سعد حتر

«الهجوم المعاكس» الذي قاده رئيس مجلس الأعيان زيد الرفاعي ضد سهام محمد حسنين هيكل الجارحة عبر قناة الجزيرة القطرية، أخمد بوادر توتر على خط عمان-الدوحة وأعاد ألق «رجل الدولة» في خريف العمر، بعد عقدين على استكانة تخلّلتها رئاسته لـ «مجلس الملك»، بحسب تشخيص نخب أردنية وردّة فعل الناس.

إطلالة الرفاعي، الأولى بهذا الزخم خلال تاريخه السياسي، تركت ارتياحا عكسته أيضا التفاعلية الإيجابية عبر المواقع الإلكترونية. في المقابل، لفت سياسي سابق وأيضا أحد المقربين من الرفاعي، إلى ما اعتبراه إقلاعا باهتا في مستهل حلقة دامت 50 دقيقة، بثّتها الجزيرة وقت الذروة، وذلك قبل يومين من التئام القمّة.

لكن في المحصلة، ستتيح المقابلة السياسية غير المسبوقة لهذا الرجل السبعيني إغلاق دائرة خدمته في الحقل العام ، مسجلا نقاطا في سجله الشعبي، بعكس التململ الذي رافق خروجه من الدوار الرابع قبل عقدين.

حتى هيكل علّق إيجابيا على المقابلة. إذ نقل عنه أحد أصدقائه العرب قوله في اتصال هاتفي معه: «كان على الأقل جنتلمان يتحدث بشكل راق».

ناشط يساري عربي-فلسطيني، رفض الإشارة إلى هويته، قال من جانبه إن «مضامين المقابلة أقنعته وأدت الغرض منها».

نفي الإدعاءات أصعب من إشاعتها

بخلاف ردّات الفعل العشوائية حدود الفزعة حيال الغارات الإعلامية سابقا ولاحقا، اختير فضاء المعركة ذاته هذه المرّة، «الجزيرة». ووظف الرفاعي حزمة وثائق بريطانية وأميركية في مواجهة اتهامات هيكل، نبشها له مدير مركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الأردنية نواف التل. هذه الوثائق تفيد بأن ملك الأردن لم يقدم في حواراته السرية أي تنازلات لإسرائيل، كما تشير إلى تقاطع الحوارات الأردنية-الإسرائيلية مع لقاءات مماثلة أجراها مع الطرف الآخر زعماء عرب، لاسيما الرئيس الراحل جمال عب الناصر- أقرب المقربين إلى هيكل.

الملفت أن الرفاعي كان أول مسؤول أردني يؤكد رسميا حصول لقاءات سرية مع إسرائيليين.

لدى إبرام معاهدة السلام العام 1994، سأل الرئيس الأميركي الأسبق رئيس وزراء إسرائيل الراحل إسحق رابين، مومئا إلى الحسين: «منذ متى يعرف أحدكما الآخر»؟ أجابه رابين: «منذ 20 عاما». فتدخل الملك الراحل مازحا: «لا بل 21 عاماً».

رغم غياب التوازن بين الرجلين في مهارات الاتصال الجماهيري وضعف كاريزميته، سعى رجل السياسة الخبير في شؤون القانون الدولي إلى تفنيد أقوال هيكل بندا بندا ما أشاع جوا من الارتياح في أوساط الأردنيين، وذلك بعد 20 عاما من تركه آخر حكومة شكّلها في أجواء سلبية. 

«حتى مغتربون في قطر اتصلوا لإعلان غبطتهم» بكلام الرفاعي، حسبما رشح من أوساط قناة الجزيرة. «الأردنيون كانوا مجروحين وانتظروا أي وسيلة لصد التهجم» على مليكهم الراحل.

ناشر موقع عمون الإخباري سمير الحياري أكد أن عدد الذين قرأوا نص مقابلة الرفاعي تجاوز 80 ألفا، أي ضعف عدد قرّاء أي من حلقتي هيكل السابقتين على الموقع نفسه. تلقى موقع «عمون»، أكثر المواقع الإخبارية الثلاثين قراءة في الأردن، 3000 تعليق إلكتروني، 97 في المئة منها إيجابية، و2 في المئة تضمنت «إسفافا» لم تنشر.

على أن الكاتب والمحلل السياسي سميح معايطة يرى أن المقابلة «جاءت أقل من التوقعات. بل تركت لدى البعض أثرا عكسيا، بسبب ضحالة المعلومة وغياب العمق في المسائل والتحليل . «يجادل المعايطة: «كان يمكن أن يكون الرد الرسمي أعمق من هذا، كما نقصته الديناميكية في الطرح».

من جهته الكاتب والمحلل السياسي فهد الفانك، رئيس مجلس إدارة الرأي كان له طرح مغاير، إذ كتب: «من الناحية الفنية لم يرتكب الرفاعي خلال المقابلة خطأ إعلاميا (..) وكان أداؤه في أفضل حالاته» مختلفاً مع تقييم المعايطة.

وزير خارجية أسبق يتفق مع هذا التقييم. إذ يقول الوزير: «جاء الرد راقيا مدعما بالوثائق ويوضح حتى لهيكل، الذي يعرف هذه الحقائق، أن الملك الراحل لم يفرط بذرة تراب أو في حق أي فلسطيني أو عربي».

اختير الرفاعي دون غيره لهذه المهمة لأنه من القلائل، الذين شاركوا في لقاءات الحسين السرية مع إسرائيليين. لكن كيف تحول التكتيك من ردود فعل عفوية ومقاطعة سياسية إلى حوار ممنهج عبر الشاشة ذاتها؟.

في البال قرار استدعاء السفير عمر العمد من الدوحة وحظر نشاط قناة الجزيرة في المملكة صيف 2002، وذلك على خلفية برنامج لـ«الاتجاه المعاكس» تضمن انتقادات لسياسات الملك عبد الله الثاني.

فكرة حق الرد في الوسيلة ذاتها أثارها بداية الكاتب والمحلل السياسي فهد الخيطان مدير تحرير «العرب اليوم». «غداة بث الحلقة الثانية، اتصل الخيطان بي متسائلا عن آليات حق الرد في القناة التلفزيونية أسوة بالصحف والمجلات»، حسبما يستذكر أبو هلالة، الذي أكد له التزام الفضائية، في ميثاق الشرف، بحق الرد وتصحيح الخطأ.

في اليوم نفسه، اتصل مستشار الملك الإعلامي أيمن الصفدي بمدير مكتب الجزيرة قائلا: «بدنا نرد على هيكل». حين نقل أبو هلاله الرغبة الأردنية، وافق مدير المحطة وضّاح خنفر دون تردد، وأوضح أن توقيت، شكل ومساحة الرد يعتمد على الشخصية التي ستظهر على الشاشة. فاقترح أبو هلاله الرفاعي، نظرا لقربه من الحسين خلال الحقبة التي نبشها هيكل. حين ذاك خيرّه خنفر بين إجراء مقابلة مع الرجل، استضافته في برنامج «بلا حدود» لأحمد منصور أو ترتيب «زيارة خاصة» مع سامي كليب.

رسا القرار في المحصلة على تصوير مقابلة مدتها 50 دقيقة. أبو هلاله يقول إنه كان يفضّل أن تناط هذه المهمة بإعلامي آخر كالتونسي محمد كريشان، حتى ينأى بنفسه عن جدلية لاحقة قد تتهمه بالانحياز مع طرف ضد آخر. لكن كريشان كان منهمكا في تغطية أحداث القمة في الدوحة فوقع «اختيار (خنفر) علي»، على ما يخلص إليه أبو هلالة.

استغرقت جلسة تصوير الحلقة أربع ساعات، من بينها 93 دقيقة تسجيل اختزلت إلى 50، بحضور التل والصفدي. سبق ذلك محاولة نفض الغبار عن ذاكرة سياسي عتيق.

بين المهني والسياسي

الأردن الرسمي لم يشأ التصعيد بخلاف ردّات الفعل السابقة. ولم تصدر تصريحات مضادة عن مسؤولين كما لم يضغط على قناة الجزيرة. يقول أبو هلالة: «عدم ورود اتصالات من المسؤولين كان مصدر ارتياح وقلق في آن. وكنا نترقب ردود فعل شبيهة بالماضي». لكن حين زار الرئيس السوري بشار الأسد عمان قبل عشرة أيام، دعي مدير مكتب الجزيرة لتغطية الحدث في الديوان الملكي، ما عكس حسن النوايا.

في الأثناء اختمرت فكرة الرد بمقابلة خاصة.

وبدا واضحا أن «التسوية المهنية» مع «الجزيرة» ساهمت في احتواء «أزمة سياسية» كانت تلوح في الأفق بين البلدين، بعد خمسة أشهر على زيارة ملكية للدوحة أوقفت تداعيات قطيعة دامت سنتين. 

وعلم أن الأردن طلب تدخل وزير خارجية السعودية الأمير سعود الفيصل، قبل أن يزور قطر أخيرا. 

عزّز التكهن بحالة الشد والجذب تحت السطح تأخر الإعلان عن مشاركة الملك في القمّة حتى عشية انعقادها.

«يغادر الملك عبد الله الثاني إلى الدوحة لترؤس الوفد الأردني إلى اجتماعات القمة العربية»، هكذا قرأ البيان المقتضب الصادر عن الديوان الملكي عصر الأحد، عشية القمة وغداة بث حلقة الرفاعي.

إذن، لم يحتج الأردن رسميا لدى قطر، حاضنة «الجزيرة» وصاحبة فيتو سياسي على بعض برامجها السياسية.

مع ذلك تأكد لـ«ے» من مصادر مقربة من حاشية الملك أن رئيس لديوان الملكي «أجرى اتصالا وديا» برئيس الديوان الأميري عبد الرحمن بن سعود آل ثاني. المكالمة، التي جاءت بعد أن بثت الجزرة حلقة هيكل الأولى في 19 آذار/مارس، كانت أخوية تمنّى فيها ناصر اللوزي على المسؤول القطري أن تتخلى الجزيرة عن بث الحلقة الثانية في الخميس اللاحق». لكن العتب والرجاء الأخوي لم يؤتيا أكلهما.  فبدا واضحا إذاك وجود «إهانة مقصودة» للأردن إذ كان بمقدور القيادة السياسية وقف بث الحلقة الثانية، علما أن الحلقتين كانتا عرضتا سابقا.

مُطلّون على آليات عمل القناة القطرية يسردون حالات تدخلت فيها الإمارة،  من عل، في مطبخ الجزيرة التحريري. من بين تلك التدخلات مقابلة حظرتها القيادة السياسية لأسباب «مهنية» كان أجراها مراسل الجزيرة تيسير علوّني مع الطريد الأميركي الأول أسامة بن لادن، زعيم تنظيم القاعدة. كذلك في الذاكرة إلغاء بث مقابلة أجراها مراسل الجزيرة العراقي شاكر حامد مع مسعود رجوي زعيم منظمة خلق المناوئة لإيران، وذلك قبل الإطاحة بنظام صدام حسين العام 2003. في ذلك الوقت ضغطت طهران من أجل عدم بث المقابلة. وألغي أيضا ترتيب مقابلة مع نائب الرئيس السوري المنشق عبدالحليم خدّام في منفاه الاختياري في باريس، استجابة، على الأرجح، لرغبة دمشق، حليفة الدوحة وطهران.

بين الشتم المضاد والرد المنهجي

قبل أيام من اختيار السلاح ذاته للرد على هيكل، تصدّى الإعلام الأردني للصحفي المصري على قاعدة الفزعة المدججة بالشتائم، باستثناء عدة حلقات حوارية عبر قنوات تلفزيونية خاصة سعت لتوظيف الحجّة المضادة وسلاح الوثائق. في محور مواز جهّز على عجل كبير مراسلي قناة العربية في المنطقة سعد السيلاوي برنامجا وثائقيا، تضمن مادة أرشيفية احتوت على مقابلات مع مسؤولين سابقين. بين الرد السياسي والمهني، احتوى الأردن زوبعة هيكل بأداة مختلفة هذه المرّة، وبادر الملك عبد الله الثاني لحضور قمّة الدوحة على قاعدة الفرز بين القضايا الإعلامية والسياسية، وذلك رغم الشكوك بقدرة القيادة القطرية على وقف التجريح عبر «الجزيرة».

هيكل: “كان الرفاعي.. جنتلمان وتحدّث بشكل راقٍ” خفايا إطلالة الرفاعي عبر “الجزيرة” في مواجهة هيكل
 
02-Apr-2009
 
العدد 70