العدد 69 - اقليمي
 

رياض الغساني

القدس - في الوقت الذي انطلقت فيه البالونات في سماء القدس في الحادي والعشرين من آذار الجاري معلنة انطلاق ‏فعاليات القدس عاصمة للثقافة العربية، كانت الشرطة الإسرائيلية عشية ذلك اليوم أعادت احتلال المدينة بنشر ‏الآلاف من عناصرها في الأحياء العربية، لمنع أية مظاهر احتفالية بهذه بالمناسبة، وكانت اللجنة المنظمة ‏للاحتفالية قبل ذلك وضعت خطة حرب عصابات ثقافية للاحتفاء بالقدس، حيث نظمت فعاليات في عدة أحياء ‏من القدس المحتلة في المسارح والأندية والجمعيات مع رفع الأعلام الفلسطينية في ‏الشوارع، إلا ‎أن قوات الاحتلال سارعت إلى اقتحام هذه الأماكن ومنعت هذه ‎الأنشطة بالقوة واعتقلت قرابة عشرين من النشطاء. أما ‎الاحتفال الرئيس بالقدس عاصمة ثقافية فكان يجري على بعد ‎كيلومترات في مدينة بيت لحم، حيث جرى احتفال رسمي في قصر ‎المؤتمرات بالمدينة، بمشاركة وزراء ثقافة عرب قدموا من الأردن، والإمارات، وتونس، ‏والمغرب، واحتاط المشرفون على الاحتفال قبل ذلك بتصوير فعاليات تمهيدية في القدس المحتلة، توقعاً لمنع ‏سلطات الاحتلال لإطلاق الاحتفالية من المدينة المقدسة، فجرى بث شريط فيديو تم تصويره في القدس لإيقاد شعلة ‏بدء الاحتفالات.‏

الاحتفال بالقدس عاصمة ثقافية، جاء في ظرف داخلي عصيب، بسبب الانقسام الذي حال دون القيام ‏بأنشطة موازية في غزة، كما حظرت إسرائيل الاحتفال المركزي في مركز محمود درويش الثقافي في ‏الناصرة. كذلك فإن اللجنة المشكلة منذ مطلع العام الماضي للإشراف على هذه الاحتفالية تلاشت، ‎فقد استقال من عضويتها رئيسها الشاعر محمود درويش ‎قبل رحيله وكذلك حنان عشراوي.. وتم لاحقاً تشكيل لجنة برئاسة ‎رفيق الحسيني رئيس ديوان الرئاسة، وبدا واضحاً ضيق الوقت الذي ‎عملت فيه اللجنة المشرفة في إعداد البرامج والاحتفالات،‎لكنها نجحت نسبياً في تقديم المناسبة «رغم شح الإمكانيات» كما قال الحسيني، فضلاً عن حظر ‏الاحتلال أية أنشطة في المدينة المحتلة بدعوى أنها «أرض إسرائيلية» مع أن المرحلة الأولى من خريطة ‏الطريق التي التزمت حكومة أيهود أولمرت بها، تنص على فتح المؤسسات الوطنية في القدس ‏المحتلة. بل إن الاحتفالية جاءت والقدس تمر في مرحلة حرجة هي الأخطر منذ احتلالها ‏العام 1967 كما تقول أم كامل الكرد، أمام خيمة الاعتصام التي أُقيمت في حي الشيخ جراح في القدس بعد ‏طردها من بيتها. تضيف أم كامل التي سميت الخيمة باسمها «ينقصنا الوعي فنحن ضائعون كمقدسيين، ‎لا أحد يرعانا، فهناك تسرب من المدارس.. وهناك تفشٍ للمخدرات ‎في أوساط الجيل الجديد.. وهناك ميل لدى الأطفال نحو العنف ‎بسبب ما يتعرضون له ويشاهدونه من قمع إسرائيلي» وتتدخل إحدى ‎جاراتها وهي تحتضن رضيعها «لدي ولدان يعالجان لدى طبيب نفسي ‎بسبب ما تعرضنا له في هذا الحي».

تحاول إسرائيل وجمعيات المستوطنين السيطرة على الحي ‏ببيوته التسعة والعشرين، وسبق أن سيطر الاحتلال على أحدها بعد عدوان العام 1967، مباشرة وطرد عائلة ‏أم كامل العام الماضي، وألقى بها وبزوجها المقعد إلى الشارع، فتوفي أبو كامل بعد شهر من الواقعة.. المدينة ‏تفقد ثقافتها العربية الإسلامية تحت وطأة الزحف الاستيطاني الذي تكثف مؤخراً، وعاد ‏المحتلون إلى مخططات قديمة وضعت في السبعينيات لممارسة التطهير العرقي في المدينة والسيطرة ‏على الأحياء الفلسطينية، بعد أن حاصروا المدينة بالكتل الاستيطانية من‎ جميع الجهات، وشرعوا ‎يتغلغلون في الأحياء العربية في البلدة القديمة داخل السور ‎وخارجه. وهكذا، فالطابع التقليدي للمدينة آخذ في التشوه بفعل ‎الاستيطان ولعل منظر الحي اليهودي إذا نظرت اليه من جبل ‎الطور المقابل يؤكد شذوذه في قلب المدينة المقدسة، وعلى ‎قمة جبل الطور قرب مستشفى المقاصد الإسلامية استولى المحتلون على مبنى حديث، ورفعوا عليه ‏علماً إسرائيلياً كبيراً، ويقول أحد خبراء الاستيطان: «إنهم يريدون إقامة محطة تلفريك من قمة جبل الطور نحو ‏الحي اليهودي، ليمر خط التلفريك فوق المسجد الأقصى، وكأنهم يريدون استيطان سماء المسجد بعد أن ‏سيطروا على ما حوله وأسفله».‏

الواقع المؤلم الذي تعيشه المدينة لا يمكن تصوره إلا بزيارتها، والوقوف العياني على شراسة الهجمة ‏الاستيطانية التي تستهدف تراثها الحضاري والديني. ولعل جولة داخل البلدة القديمة توضح كيفية ‏إحكام الاحتلال قبضته على المدينة، ‏فما أن يدخل الزائر من أحد أبواب سور ‎البلدة القديمة حتى يكون بالإمكان تتبعه من شارع إلى شارع، ‎إلى حين خروجه بواسطة كاميرات تتم مراقبتها في قيادة الشرطة ‎الإسرائيلية. وهناك حول المسجد الأقصى يمكن مشاهدة أربعة ‎مراكز شرطة من باب القطانين وعقبة الخالدية في مسافة لا تزيد على مائة ‏متر حول الكنيس اليهودي الحديث، الذي بني فوق مبنى قديم على بعد أمتار من سور المسجد الأقصى ولا ‏يفصله سوى منزل عربي، ويقف عند باب الكنيس حارس مسلح يتظاهر بقراءة التوراة لكن عينيه ترقبان ‏المارة. وأسفل الكنيس ومن ثقب في الباب، يمكن معاينة أعمال حفر لأنفاق تحت الأرض تفضي نحو ‏المسجد الأقصى. فالأعمال الاستيطانية بلغت ذروتها في غفلة من الانقسام الفلسطيني والإهمال العربي، ‏والتواطؤ الدولي. فالمسجد الأقصى عملياً بات محاصراً ببؤر استيطانية وكنيس، ومن أسفله شبكة أنفاق ‏بعضها علني وبعضها سري، كما يذكر الشيخ تيسير التميمي قاضي القضاة، ويضيف: ‎‎«إنهم يذيبون الصخور تحت المسجد بمواد كيماوية لحفر ‎الأنفاق.. فالمسجد بات معلقاً في الهواء» وكانت الحفريات ‎الإسرائيلية أدت إلى تصدع جدران الكثير من المباني حول ‎المسجد، وتهدد سلسلة أنفاق يجري شقها من سلوان خارج السور ‎نحو المسجد الأقصى بنيان المسجد نفسه، كما انهارت غرفة مدرسية في سلوان العام الماضي بفعل ‏الحفريات المستمرة.

التركيز الإسرائيلي حالياً هو على سلوان، حيث سيطر الإسرائيليون على عدد من المنازل ‏قبالة مقبرة باب الرحمة عند مدخل الضاحية، ويمكن مشاهدة مواقع حفر الأنفاق المغطاة والمحروسة جيداً،حيث ‏خصصت سلطات الاحتلال أكثر من 2.5 مليون دولار لشركات الحراسة لحراسة البؤر الاستيطانية في ‏سلوان. يقول مازن أبو دياب، وهو من سكان سلوان ويعتصم في خيمة الاعتصام المقامة في حي البستان ‏المهدد بالهدم «عددنا في سلوان 50 ألف مستوطن وسيطر الإسرائيليون على 36‏‎ بيتاً منذ الاحتلال ‎منها خمسة باستئجارها من مستأجرين وليسوا مالكين، والبقية ‎بالقوة أو بالتزوير»، وفوق حي البستان شمالاً ومن خيمة الاعتصام ‎يمكن مشاهدة بناية وسط المباني عليها علم إسرائيلي، ويقول ‎أحد النشطاء في خيمة الاعتصام: «فوجئنا بالمستوطنين ‎يحتلونه» وبسؤاله كيف أجاب «إنهم لا يعدمون وسيلة، فإن عجزوا عن شراء المنازل بعرض الملايين، وجدوا ‏أحد ضعاف النفوس وعرضوا عليه شراء قطعة أرض باسمه وحصلوا له على ترخيص سريع وبعد البناء ‏ينقلون ذلك إلى جمعية استيطانية» ويبدو جلياً أن الهدف إخلاء سلوان من سكانها، حيث سيطر الإسرائيليون ‏على مدخلها من جهة المسجد الأقصى، ورفعوا يافطة تشير إلى مدينة داود وأزالوا اسم سلوان، وبدأوا عمليات ‏حفر للأنفاق تتجه صوب المسجد الأقصى وباب المغاربة. كما بدأ زحف بحجة إقامة منطقة خضراء كإمتداد ‏لمنطقة قرب باب الخليل من الناحية الجنوبية للبلدة القديمة، نزولاً ‏نحو وادي الربابة في ‎سلوان، وحي البستان نفسه مهدد بالهدم بحجة إقامة ‎منطقة حديقة عامة، ويقول أحد السكان «عرضوا علينا أرضاً ‎بديلة في جبل أبو غنيم قبل سنوات فرفضنا، وعادوا يعرضون أرضاً ‎بديلة في بيت حنينا ونرفض.. فلن نخلي منازلنا وبيوتنا التي ‎بني بعضها العام 1890.‏

الواقع المأساوي الذي تعيشه القدس المحتلة يكاد يغيب عن المحتفلين بها ثقافياً، فالاستيطان يغير معالمها ‏والطرق السريعة تأكل المنازل، والجمعيات الاستيطانية تنشط لافتراس المزيد بوسائل شتى من التزوير إلى ‏الإغراء المالي الوفير. تذكر أم كامل الكرد «عرضوا علينا الملايين لكننا رفضنا وسنواصل الرفض»، ‏فالهدف النهائي هو منع إعادة تقسيم المدينة ضمن أية تسوية، والسيطرة التامة على الحوض ‏المقدس الذي يشمل المسجد الأقصى، وساحته، وقبة الصخرة المشرفة، وسلوان، وربطها مع الحي اليهودي. ‏ولعل إقامة كنيس على حافة سور الأقصى تنبىء بالخطوة التالية، وهي إقامة ‎كنيس بين المسجد وبين الصخرة، كما تخطط جمعيات دينية يهودية.

‎وقبالة باب الأفارقة يقف أبو أدهم، وهو أسير محرر، أمام مركز ‎مجتمعي تم افتتاحه في المكان، ويقول: «افتتحنا هذا المركز ‎للتوعية المجتمعية، وللحفاظ على المبنى من الاستيطان، فالمؤسف إننا ‏متروكون لمصيرنا دون قيادة منذ وفاة فيصل الحسيني»، ويشير أحد الحضور إلى متجر قريب للهدايا ‏التذكارية، ويقول: سيطر المستوطنون على المحل ووظفوا فيه مستوطناً ليبقى فيه.. ويرسلون له الأفواج ‏السياحية.. بينما اضطر أصحاب 400 محل من العرب للإغلاق بسبب تردي الوضع الاقتصادي وبالقرب منه أقام ‏المستوطنون مبنى فوق مكتبة الخالدية في خطوة تهدد المكتبة القديمة بالضياع.. فالثقافة المقدسية أيضاً ‏مهددة.. بل تم تغييب مثقفيها في احتفالية القدس كعاصمة للثقافة، ويقول مثقف يسمي نفسه ‏صعلوك القدس: «الإسرائيليون يصدرون سنوياً مئات الكتب عن القدس ويستضيفون ‎أدباء ومثقفين وفنانين من أنحاء العالم، ليكتبوا ويرسموا عن ‎القدس من وجهة نظرهم، فأين الانتاج الثقافي لدينا عن القدس؟»

‎أغادر المكان وأمر أمام بقالة رفعت يافطة كتب عليها «بقالة ‎الخلفاء» وعلى واجهة البقالة كتبت لافتة «نبيع ساندويشات» فنضحك من ‏شر البلية، لأن الخلفاء باتوا «يبيعون الساندويشات» قرب المسجد الأقصى. وعلى يمين باب العامود يمكن ‏ملاحظة باب سفلي روماني قديم، تجري منه حفريات لنفق يتردد أنه سيمتد نحو سلوان مخترقاً البلدة القديمة. ‏العائد إلى رام الله من القدس بالكاد يتبين المعالم التي كان رآها قبل سنة، فكل شيء يتغيّر في ‏المدينة بفعل الاستيطان، حتى الشارع الواسع الذي كان يخترق بيت حنينا تم استيطانه بسكة حديد التهمت أكثر ‏من نصفه، وهذه السكة هي لمشروع المترو الذي سيربط معاليه أدوميم شرقاً بالقدس، وعندما تصل الرام يمكن ‏مشاهدة كيف أن ‏الجدار العازل التهم نصف الشارع الرئيس، ففصل الرام ‎عن مطار قلنديا والمنطقة الصناعية قبالة الرام. ففي القدس ‎كل شيء عرضة للاستيطان: البيوت، والشوارع، والمقدسات، والفضاء، والأرض وما تحتها. الاحتفالية ‎بالقدس في هذه الظروف تبدو وكأنها مرثاة.‏

“احتفالية القدس” أقرب إلى مرثاة كل شيء في المدينة المقدسة ينوء تحت التهويد والاستيطان
 
26-Mar-2009
 
العدد 69