العدد 69 - الملف
 

أنيس فوزي قاسم

تتلاحق الأحداث على نحو سريع في ما يتعلق بالرئيس السوداني عمر البشير الذي صدر أمر بملاحقته قضائياً لمحاكمته أمام محكمة الجنايات الدولية، بسبب مسؤوليته القانونية عما اتهم به من ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وجريمة إبادة ضد أهالي دارفور. وطرح كثيرون التساؤل التالي: كيف يتسنى للآخرين ملاحقة الرئيس البشير ولا يتسنى لنا ملاحقة المتهمين من الإسرائيليين بارتكاب جرائم حرب، ولاسيما في محرقة غزة؟ وهل العدالة الدولية مسيّسة، وهل يكيل المجتمع الدولي بمكيالين؟ هذه - بلا شك - أسئلة مشروعة وتقع في صلب النقاش الفكري القائم. وفي محاولة للإجابة عن هذه الأسئلة يجدر التوقف عند بعض الحقائق:

في 31/3/2005 أصدر مجلس الأمن الدولي القرار رقم 1593 بموجب الفصل السابع من ميثاق هيئة الأمم المتحدة، والذي تقررت بموجبه إحالة موضوع دارفور الى المدعي العام في محكمة الجنايات الدولية، ليتم التحقيق في ما جرى في دارفور اعتبارا من 1/7/2002. أما لماذا اتخذ المجلس قراره بموجب الفصل السابع، فإن من الواجب العودة إلى ميثاق روما الذي قامت محكمة الجنايات الدولية على أساسه.

حدد ميثاق روما ثلاث طرق لملاحقة مجرمي الحرب أمام هذه المحكمة: الأولى: أن تكون الدولة التي تقيم الدعوى والدولة التي اتهم مواطنوها بارتكاب جرائم حرب، أطرافا في ميثاق روما. الثانية: أن يصدر قرار من مجلس الأمن الدولي بموجب الفصل السابع بتكليف المدعي العام للمحكمة بالتحقيق وملاحقة أي شخص بغض النظر عن وضعه. الثالثة: أن يبادر المدعي العام من تلقاء نفسه بالتحقيق في جرائم ارتكبها مواطنو دولة طرف في ميثاق روما.

ما يهمنا هو الطريق الثانية التي تتم على أساسها ملاحقة الرئيس البشير، مع ضرورة الإشارة إلى أن كون السودان طرفاً في ميثاق روما أو غير طرف ليس بذي أهمية، لأن الملاحقة هنا تتم بموجب قرار إلزامي لمجلس الأمن. وقد صدر قرار مجلس الأمن الدولي المشار إليه أعلاه، بتكليف المدعي العام، وصدر القرار بموجب الفصل السابع من ميثاق هيئة الأمم المتحدة، والقرارات التي تصدر بموجب هذا الفصل تكون قرارات ملزمة لجميع دول العالم الأطراف في ميثاق الأمم المتحدة.

ولكن هل تجوز ملاحقة متهم يحمل صفة رسمية؟ تنص المادة 27 من ميثاق روما على أنه يطبق على جميع الأشخاص دون أي تمييز بسبب الصفة الرسمية للشخص المطلوب ملاحقته «سواء كان رئيساً لدولة أو حكومة، أو عضوا في حكومة أو برلمان»، ونص الميثاق كذلك على مسؤولية الرئيس «جنائياً عن الجرائم التي تدخل في اختصاص المحكمة والمرتكبة من جانب مرؤوسين يخضعون لسلطته وسيطرته». وهكذا يتوسع ميثاق روما في مجال تطبيقه أفقياً (حيث يغطي مساحة واسعة من الأعمال المعاقب عليها) وعمودياً (حيث يُسأل الرئيس عن أفعال مرؤوسيه بغض النظر عن وضعه السيادي).

لا شك أن مجلس الأمن يكيل بمكيالين، وإلاّ لكان بإمكانه أن يتخذ إجراءات مماثلة بحق الضباط والمسؤولين الإسرائيليين الذين ارتكبوا الجرائم في غزة، وقبل ذلك في جنوب لبنان، لا سيما وأننا نقرأ الآن شهادات الجنود الإسرائيليين عن كيفية قتل المدنيين في غزة بدم بارد وتدمير منشآت لا صبغة عسكرية لها. وحالياً نسمع مطالبات من منظمات حقوق إنسان وشخصيات قانونية دولية ومؤسسات رسمية، بما في ذلك وزارة الخارجية الأميركية، تحضّّ إسرائيل على التحقيق في ممارسات قواتها المسلحة أثناء معركة غزة. فلماذا لا يتحرك مجلس الأمن كما تحرّك في قضية دارفور؟!.

أعتقد أنه رغم صحة الإدعاء بأن العدالة الدولية مسيّسة، وأن مجلس الأمن - بفضل السيطرة الأميركية- يكيل بمكيالين، إلاّ أن هذا لا يشكل رخصة لأي زعيم سياسي أو قائد عسكري لارتكاب جرائم بحق شعبه ومواطنيه. إن مشكلة دارفور التي تستنزف السودان منذ نحو سبع سنوات، هي وصمة عار ليس في جبين حكومة السودان وحسب، بل وفي جبين العرب أجمعين. إن إقليم دارفور (وكان الملك فاروق يسمى رسمياً ملك مصر والسودان ودارفور)، يضمّ مواطنين سودانيين يعيشون على الرعي والزراعة البدائية، وغالبيتهم من الفقراء، وقد طوروا في الماضي أدوات لحل النزاعات القبلية بين الرعاة والمزارعين، وكانت تلك أدوات فعالة وناجحة في فض الخلافات. فلماذا تتقاعس الحكومة المركزية في الخرطوم عن حلّ مشكلة دارفور طبقاً للدستور والقانون والأعراف السائدة، وتغلق هذه النافذة التي تدخل منها كل عناصر الابتزاز، وتستفيد منها كل قوى الاستغلال؟!

على الحكومة السودانية أن تستلهم تجربة العراق، فالنظام الفردي البعيد عن ضوابط القانون ومراعاة حقوق مواطنيه واحترام حقوقهم وصيانة أملاكهم وأعراضهم سيجعل الوطن مهدداً بالتشظي وانحلال العقد الاجتماعي وانحداره ليصبح فريسة سهلة لكل انتهازي ومغتصب. والقول إن العدالة الدولية مسيّسة والمجتمع الدولي يكيل بمكيالين لا يشكل ذريعة مقبولة أو قولاً مستساغاً، فحماية الوطن ورعاية المواطن هو ما يمكث في الأرض.

ملاحقة البشير: لماذا لا تؤخذ العبرة من العراق؟
 
26-Mar-2009
 
العدد 69