العدد 68 - ثقافي
 

نوال العلي

لم تكن لِتُتَح لكاتبة هذه السطور فرصة التعرف إلى نتاج مفكر مغربي كبير مثل عبدالكبير الخطيبي لولا الشاعر والأكاديمي وليد السويركي. كان معلمي في قسم اللغة الفرنسية بجامعة اليرموك يمتلك المكتبة صاحبة الفضل في تثقيفي وتعليمي، وفي اكتشافي الأدب الفرنكفوني بعامة، وروائع الأعمال المغاربية على نحو خاص.

وحين تناقلت الأنباء خبر وفاة الخطيبي عليلاً في مستشفى الشيخ زايد بالرباط الاثنين الفائت (16 آذار/مارس 2009)، كان مكتب معلمي السويركي وحديثه المتأثر بكتاب الخطيبي البديع «الذاكرة الموشومة» أول ما استعدته، وقد سنحت لي الفرصة أن أقرأ له عملين آخرين بالإضافة إلى سيرته الذاتية الموشومة تلك، وهما «كتاب الدم» و«الاسم العربي الجريح».

كثيرا ما سألت نفسي بعد قراءة عمل الخطيبي، عن الفرق بين كتابة سيرة ذاتية تلتزم بالتسلسل والتوثيق الزمني للأحداث، وكتابة بورتريه ذاتي يحلّق بلا هوادة ويخيّل في الذات، وإن كان يمكن حقاً رسم صورة للمفكر طفلاً؟ فالراوي هنا هو عبد الكبير، والمروي عنه هو أيضاً عبد الكبير، المولود في عيد الأضحى سنة 1938، والذي سمي «عبد الكبير» نسبة إلى ذلك العيد.

لكننا نقرأ في هذه السيرة الذاتية نصاً مشتبكاً على ثلاثة مستويات، الأول يكمن في علاقة الكاتب والروائي والشاعر بحياته طفلاً ومراهقاً كنص، وعلاقة هذا النص بسيرة ابن مدينة «الجديدة» الذي بدأ نظم الشعر وهو في الثانية عشرة، ثم علاقة هذه السيرة بالتاريخ الذي حدثت به، وتعالقها مع الأحداث السياسية والثقافية والاجتماعية، وأخيراً العلاقة بين هذه «الذاكرة الموشومة» وبين النصوص والأعمال الأخرى لعبد الكبير، فمن هناك بدأت بواكير نظريته الشهيرة عن النقد المزدوج، التي دعا فيها إلى أن يبدأ النقد بذاته وأزمتها.    

بدأ عبد الكبير في أن يكون نفسَه في مرحلة مبكرة جداً، هذا ما نشعره في هذه السيرة، إننا نتعرف إلى تاريخه كقارئ، والمعروف أن تاريخ القارئ توثيق للصيرورة التي حدث من خلالها الكاتب.

نلمح في السيرة نفسها كيف اقترح عليه هذا العملُ، كتباً مستقبليّة، فكم من أفكار قرأناها في هذا الكتاب وقد طُوّرت وأعيد تقديمها في كتبه اللاحقة، مثلما هي حال روايته «الحب ثنائي اللغة»، وهي قصة حب تبدو اللغة المحرك الرئيسي للحالة الحسيّة الإيروتيكية فيها. وكان الخطيبي أسهب في الفصلين الأخيرين من السيرة بالحديث عن ثنائية اللغة، ومحاولة التحرر من كون المرء مستعمراً. فيصبّ غضبه على الغرب الذي تمثله فرنسا من خلال الغضب على اللغة نفسها. وقد نجح في ذلك من خلال استعمال لغة الغرب، بما يناسب أجندة الكاتب الاجتماعية والثقافية والفنية، وتمكين عالمه الخاص من تلك اللغة، كأنه فعل انتقام.

بات الخطيبي من حيث لم يحسب، مرجعاً لأشهر المفكرين الفرنسيين في القرن العشرين. رولان بارت قدم لكتابه الاسم العربي الجريح مقدمة مؤثرة عنونها «ما أدين به للخطيبي»، وكذلك كان حال دريدا أيضاً الذي قال: «مثلي مثل الكثيرين، أعدّ الخطيبي أحد الكتّاب والشعراء والمفكرين العمالقة باللغة الفرنسية، وأتأسّف لكونه لا يدرّس بالشكل الذي يستحقه بالبلدان الناطقة بالإنجليزية». وكان الخطيبيي أسهم للمرة الأولى في تقديم الرواية المغاربية بحديّها العربي والفرنكفوني من خلال أطروحته التي نال عنها درجة الدكتوراه من جامعة السوربون العام 1966.

إن كان الخطيبي قد تحدث عن مفاهيم الجنس والوشوم والجسد والرقص، ونشر الأشعار والرويات وكتباً في السياسة والاجتماع مثل «القيء الأبيض: الصهيونية والضمير الشقي» و «تجليّات الأجنبي في الأدب الفرنسي»، فإن هذا لم يبعده كثيراً عن التمتع بالعيش. لقد انتقدته الصحافة ذات يوم حين ترك حلقة نقاشية مع أصدقائه، وانضم لحلقة رقص شابة في «مهرجان مراكش الدولي للفيلم».

إنه مفكر عربي مارس النقد والتأمل في كل معطيات الثقافة والتراث العربي، مثلما عاش حياته بالضبط، ومثلما كتب ذات مرّة في قصيدة له: «جئت لأعلمكم الاختلاف الذي لا رجوع منه».  

"جئت لأعلمكم الاختلاف الذي لا رجوع منه” رحيل عبد الكبير الخطيبي معلّم الاختلاف
 
19-Mar-2009
 
العدد 68