العدد 68 - أعلام
 

عرفت الثقافة العربية، في القرنين التاسع عشر والعشرين، جهوداً فكرية متلاحقة، أخذت بتصورات حديثة، اعترفت بالعقل ووظيفته النقدية، وباختلاف أسئلة الحاضر عن الماضي، وبضرورة الانفتاح على المعارف والتجارب الإنسانية الكونية. وتطلّعت هذه الثقافة إلى حداثة عربيّة، تتأسس على الديمقراطية والمجتمع المدني والاستقلال الوطني وتحرر المرأة والحوار المجتمعي، بعيداً عن التعصب والأفكار الجاهزة

فيصل دراج

أصدر الشيخ الأزهري علي عبد الرازق العام 1925 كتابه الشهير: «الإسلام وأصول الحكم»، الذي ألحق به أذى شديداً دفعه إلى اعتزال الحياة العامة. قصد الكتاب إلى قراءة مستنيرة للإسلام، تسهم في بناء دولة وطنية حديثة، وتردّ على دعاة «الخلافة الإسلامية» وتكشف ضعف حججهم، وذلك في فترة دغدغ فيها حلم الخلافة الخديوي فؤاد، الذي لم يكن الشيخ المستنير ينظر إليه بإعجاب كبير. وإذا كانت العقول الدينية المغلقة، التي حاصرت كتاب طه حسين «في الشعر الجاهلي»، مستعدة أبداً لتكفير ما هو حداثي، فإن تحالفها مع السلطة الخديوية جعل حصار عبد الرازق أشد إحكاماً وأكثر أذى.

تأمل عبد الرازق، الداعي بشكل مضمر إلى سلطة ليبرالية، معنى الخلافة في التاريخ الإسلامي ومعنى السلطة في زمن حديث، يحتاج إلى حكم مختلف. فهذه الخلافة ترتبط، في الموروث الفقهي السياسي الإسلامي، بسلطتين متكاملتين: دينية وسياسية، ذلك أن الخليفة مؤتمن على عقيدة رعيته وتطبيق شريعتها، وصاحب سلطان سياسي يسوس شؤون الناس ويفصل فيها بين الحق وغير الحق. ينوب الخليفة في هاتين السلطتين عن الله ونبيّه، منتهياً إلى سلطان مطلق لا يجوز لأحد المساس به، لأن من يستظل بالله ويستأنف وظائف النبوة جدير بقبول يتاخم التقديس.

ردّ دعاة الخلافة سلطان الخليفة إلى سلطان الله، وعثروا له على شرعية دينية، تسوّغه وتبرّره وتجعل من طاعته واجباً دينياً، على المسلمين القيام به. دحض علي عبد الرازق الفكرة، مبيّناً أنه ليس هناك في القرآن ما يقيم الدليل على هذه «الفرضية»، مثلما أنه لا سند لها في السنة أيضاً، فلم يترك الرسول حديثاً واضحاً يؤيدها. لا يتبقى إلا ما يدعوه الفقهاء بـ«الإجماع»، الذي هو سند ضعيف، ليس في تاريخ الإسلام ما يؤيده، بما في ذلك «الصدر الأول». وعلى هذا فإن الخلافة، في نظر الشيخ الأزهري المستنير، لا تقوم على الخلافة قوة الشرعية الدينية، كما يزعم المدافعون عنها، بل على شرعية أخرى، غير دينية في ماهيتها وأغراضها، هي: شرعية القوة.

لم يستبعد علي عبد الرازق دعوى الفقهاء القائلة إن أمر الخلافة راجع إلى «اختيار أهل العقد والحل»، الذي يعني إمكانية قيام الخلافة على البيعة الاختيارية، دون أن يمنعه ذلك عن التأكيد أن الخلافة في الإسلام «لم ترتكز إلا على أساس القوة الرهيبة»، التي كانت «قوة مادية مسلحة». حدث ذلك في زمن الخلافة الراشدة وتطوّر، بشكل أكثر عنفاً، في العهود اللاحقة. فلم يذكر التاريخ خليفة إلا وذكر معه «تلك الرهبة المسلحة التي تحوطه بالقوة القاهرة التي تظلّه». وصل عبد الرازق، بعد قراءة الخلافة في النص الديني وفي تاريخ المسلمين، إلى نتيجة محددة: لا تتمتع الخلافة بأي شرعية دينية، فلا يمكن اشتقاقها من الدين ولا يأمر الدين بالأخذ بها. وعلى هذا، فإن الخلافة، التي عرفها التاريخ الإسلامي، شكل دنيوي من أشكال الحكم، ذلك أن الأمم، في عقائدها المختلفة، تحتاج إلى حكم ينظم حياتها الاجتماعية. يقول علي عبد الرازق: «الواقع المحسوس الذي يؤيده العقل، ويشهد به التاريخ قديماً وحديثاً، أن شعائر الله تعالى ومظاهر دينه الكريم لا تتوقف على ذلك النوع من الحكومة التي يسميها الفقهاء «خلافة»، ولا على أولئك الذين يلقبهم الناس خلفاء»، إذ «ليس بنا من حاجة إلى تلك الخلافة لأمور ديننا ولا لأمور دنيانا».

أكّد الشيخ المستنير أن الخلافة والسياسة أمران دنيويان، تمليهما حاجات وشروط دنيوية مختلفة، عرفها المسلمون وغير المسلمين، وأن لا وجود لحكومة دينية في الإسلام، ذلك أن الحكم شأن من شؤون الدنيا. فصل الشيخ بين السياسي والديني، كان ذلك في زمن الرسول أو من جاء بعده، معتمداً على إعمال العقل وحده، دون أن يسيء إلى الدين في شيء. وإذا كان الرسول عليه السلام قد أنجز سياسة خاصة به، تروم العدل والمساواة، فهذا عائد إلى شخصه، لا إلى تعاليم لا شكل القاعدة والقانون، وعائد أيضاً إلى روح الرسالة التي بشّر بها. ومن أجل تبيان الفرق بين الديني الخالص، الذي لا وجود له، والسياسة العملية التي تحتاجها الحكومات جميعاً، تأمل عبد الرازق معنى الجهاد في الإسلام، الذي يحمل في وجه منه الدعوة إلى الإيمان، ويحمل في وجه آخر توطيد الحكم والنفوذ، ذلك أن الديني الخالص، يأمر بالحكمة والموعظة و «لا يكون إلا بالبيان وتحريك القلوب بوسائل التأثير والإقناع».

توقف علي عبد الرازق، وهو يفصل بين السياسي والديني، أمام المشروع النبوي، من حيث هو مشروع ديني خالص، لا يحيل على السياسة، التي هي شأن عام. لهذا يقول إن النبي «ما كان إلا رسولاً لدعوة خالصة للدين، ولا تشوبها نزعة ملك، ولا دعوة لدولة، وإنه لم يكن للنبي ملك ولا حكومة، وإنه لم يقم بتأسيس مملكة». والمقصود بذلك كله أن مشروع الرسول خاص به، ولا ينسحب على من جاء بعده, أي أنه ليس سياسياً ولا يتضمن نظرية سياسية. وعلى هذا فإن السياسة، في ما يرى عبد الرازق، ليست شأناً دينياً، وإنما هي «غرض من الأغراض الدنيوية التي خلى الله سبحانه وتعالى بينها وبين عقولنا». والقول الشائع إن «الإسلام دين ودنيا» قول سياسي محض يلصق بالدين دعاوى غريبة عنه تستثمر، سياسياً، هالة الدين لدى الجماهير المسلمة.

لم يقل عبد الرازق، جهاراً، إن السياسة لا تستطيع الإسناد إلى شرع ديني، إنما فعل ذلك، بشكل مضمر، حين ربط بينها وبين مبدأين تتأسس عليهما هما: العقل أي الاجتهاد، والمصلحة. وهذان العنصران ظاهرتان إنسانيتان مجرّدتان من أي قداسة، يحتملان القهر والتسامح والظلم والعدل. وإذا كان الرسول قادراً على ممارسة التسامح والعدل، لأنه كان رسولاً، فإن الذين جاءوا بعد لم يكونوا رسلاً، بل حكاماً أو سلاطين شأن غيرهم من البشر في جميع الأزمنة والأمكنة. وبسبب ذلك فإن ما دعي بـ«الخلافة» كلمة فرضها سياق معين، لا تستند إلى الشرعية الدينية ولم تنتج «سياسة دينية»، لأن السياسة ترتبط بالقوة والمصلحة. أي أن الخلافة، في الأزمنة كلها، ليست من الأمور الدينية في شيء، وما قامت به من الحكم والقضاء والجهاد «أمور سياسية صرفة، لا شأن للدين بها، فهو لم يعرفها ولم ينكرها، ولا أمر بها ولا نهى عنها، وإنما تركها لنا لنرجع فيها إلى أحكام العقل، وتجارب الأمم، وقواعد السياسة. كما أن تدبير الجيوش الإسلامية، وعمارة المدن والثغور، ونظام الدواوين، لا شأن للدين بها، وإنما يرجع الأمر فيها إلى العقل والتجريب.

انطوى نقد الخلافة، في كتاب علي عبد الرازق، على غايات أربع: نقد التاريخ المكتوب الذي ساوى بين الديني والسياسي، ونقد المتخيّل الجماهيري الإسلامي، الذي يردّ حكم الخلفاء جميعاً إلى حكم ذهبي هو حكم الخلفاء الراشدين، بعد أن يحوّله إلى حكم متجانس لا تناقض فيه. واجه في نقده المزدوج القراءة السلطوية للتاريخ الإسلامي بقراءة موضوعية، تنطلق من التاريخ الإنساني كله، ومن معرفة دقيقة بالدين والتاريخ الإسلاميين. ولعل انفتاحه على الإنساني هو الذي جعله يقول بعنصري: العقل والمصلحة، اللذين تأخذ بهما المجتمعات جميعاً، وأملى عليه التأكيد على مفهوم «التجريب»، الذي يعني التجدد والمقارنة، والابتعاد عن الجاهز والمغلق والمستهلك والاستفادة مما جرّبته الشعوب الأخرى وبرهن عن صلاحه. فالسياسة شأن إنساني عام، اجتهدت فيه عقول كثيرة، رأت إلى خير الإنسان دون النظر إلى دينه وعقيدته.

جاءت الدعوة إلى الحداثة السياسية في المجتمع العربي من عقول انفتحت على الحضارة الأوروبية، حال طه حسين وأحمد لطفي السيد وخير الدين التونسي وغيرهم. أراد علي عبد الرازق أن يبرهن أن «الخطاب السياسي الحداثي ليس مقتصراً على العقول العربية الليبرالية» المتأثرة بالغرب، وأنه لا يتعارض مع الإسلام، الذي لم يترك للمؤمنين به نظرية سياسية، ولم يمنع الإنسان المسلم عن الاجتهاد السياسي. إذا كان علي عبد الرازق قد قاسم طه حسين محنته، حين تصدت لأفكارهما القوى الدينية المحافظة، فقد كانت محنة الأول أشد عمقاً وأكثر خطراً، بسبب تحالف القوى الدينية مع «الخديوي»، الذي التمس من الخلافة المفترضة غطاء يحجب به شرعيته المفقودة. هذا التحالف، الذي يتطيّر من التغير ويقدس الثبات، عبّّر عن العروة الوثقى بين «الاستبداد الديني والاستبداد السياسي» التي تحدّث عنها الشيخ المستنير عبد الرحمن الكواكبي في «طبائع الاستبداد».

ينتسب خطاب علي عبد الرازق، ربما، إلى ملاحظات نيّرة جاءت في كتاب رفاعة الطهطاوي، وجاءت بشكل أكثر وضوحاً وتماسكاً في كتابات الشيخ محمد عبده. كان بإمكان هذه الكتابات أن تصالح بين العلمانية والإسلام لولا سلطة القوى الدينية الظلامية المسيطرة ومجيء «دولة الاستقلال الوطني» التي ألغت الاجتهاد في أشكاله جميعاً.

الشيخ علي عبد الرازق: إعمال العقل وفصل السياسي عن الديني
 
19-Mar-2009
 
العدد 68