العدد 68 - حريات
 

بثينة جويحات

“مشان الله بدي أوقع من الجوع، بدي أشتري ساندويش وخبز عشان أطعمي إخواني بعدهم من الصبح بلا أكل”، هذه هي العبارة التي يحفظها نضال اسماعيل (10 أعوام) عن ظهر قلب، ويرددها على مسامع راكبي السيارات التي تعبر شارع الحمرا بالصويفية، أو تصطف على جنباته، بينما يعرض عليهم شراء ألعاب بسيطة للأطفال.

نضال الذي تحدث لـ”ے” بعد تردد، قال إنه يسكن في حي القيسية، ويواصل “عمله” في هذا الشارع أو غيره لمدة عشر ساعات يومياً، موضحاً أن مرد ما يقوم به هو أن والده قد انفصل عن والدته منذ سنوات، ولم يعد يسأل عن العائلة، وهو ما أدى إلى حرمانه وإخوته من الرعاية الأبوية، ما ألقى على عاتقه مسؤولية تأمين لقمة العيش له ولأشقائه الأربعة.

أما علاء سالم محمود (12 سنة)، فيقول إن الظروف الصعبة التي تعيشها عائلته، هي التي دفعته لبيع الورود عند “إشارة الاتصالات” في الرابية، فقد توفي والده تاركاً له ثلاثة من الأشقاء الصغار ووالدة مريضة لا تستطيع العمل بسبب إصابتها بالدسك. لكن علاء يعمل بهذه “المهنة” موظفاً عند أحد أصحاب محلات الورود براتب 150 دينار شهرياً. علاء الذي لا يستطيع سوى قراءة وكتابة كلمات بسيطة، لأنه خرج من المدرسة منذ كان عمره ثماني سنوات، يتمنى أن يرجع للمدرس ويتعلم كأقرانه.

“ے” التقت ثلاثة آخرين من “أطفال الشوارع”. ضرار حسين (15 عاماً)، يبيع الورود هو الآخر،لكن عند الإشارة الضوئية المحاذية لمبنى الضمان الاجتماعي في الرابية. يقول ضرار إن عائلته مكونة من خمسة أشخاص، يعملون جميعاً في أعمال بيع بسيطة، فأمه تعمل في تنظيف المنازل، وأبوه بائع بسطة في جبل الحسين، أما هو وأخوته الثلاثة فيقومون بالبيع عند الإشارات الضوئية: “أنا أبيع ورود، وأخي يبيع علكة، والثالث يبيع فاين”، هكذا يوزع ضرار الأدوار..

عن مكان سكنهم وكيفية وصولهم إلى مناطق عملهم، يشرح ضرار أنهم يسكنون في الأشرفية، وأن والدهم يقوم بتوزيعهم صباحاً على الإشارات، ثم يقوم مساء بجمعهم. وبالطبع فإن والدهم يرفض إرسالهم إلى المدرسة، بحجة أنه لا يملك مالاً كافياً لذلك، فضلاً عن أنهم “مش فالحين في الدراسة” كما يقول لهم دائماً. وقد رفض ضرار الإفصاح عن المبالغ المالية التي يجمعها وأخوته يومياً.

أخيراً فإن ضرار يود أن يعيش كما يعيش الأطفال الذين يراهم جالسين إلى جوار آبائهم في السيارات، لكنه يؤكد “ما بدي سيارة فخمة، بدي نكون عيلة سعيدة زي العائلات الثانية، بس هذا نصيبي والحمد لله على كل شيء”.

قصة علي أحمد (11عاماً)، الذي يبيع المناديل الورقية عند مجمع جبر، لا تختلف كثيراً عن الآخرين، فهو أيضاً ترك المدرسة إلى الشارع بسبب الفقر، فوالده عامل في ورشة بناء، وما يجنيه لا يكفي ثمناً لما يشتريه يومياً من مشروبات كحولية. علي يسكن في منطقة الوحدات، ويستغل أية وسيلة نقل للوصول إلى مكان “عمله” بالمجان، ولا يرجع إلى البيت قبل التاسعة مساءً، كي لا يرى والده الذي يأخذ منه كل ما يجنيه من أموال، كي “يشرب بها”، وهي تتجاوز في بعض الأيام 20 ديناراً، بخاصة حين يمنحه بعض الأشخاص المال من دون أن يشتروا منه شيئاً. علي، الذي يتمنى هو الآخر العودة إلى المدرسة، يتعرض أحياناً للإهانات من قبل البعض الذين يسمعونه كلاماً قاسياً ،لأنهم لا يصدقون حاجته لهذا العمل كي يحصّل قوت يومه.

أما إسلام أحمد (15 عاماً)، الذي يعمل على بسطة في جبل الحسين، يتمنى أن يكون لديه رصيد في البنك ليوظف المال في مساعدة المحتاجين، وأن يفتتح محل كمبيوتر، ويمتلك شقة في حي راقٍ بغرب عمان، وأن ينال أعلى الشهادات العلمية.

يشرح إسلام أنه خرج من المنزل منذ خمس سنوات، بعد أن وقع الطلاق بين والديه، وتزوج كل منهم زواجاً آخر, قائلاً أنه يذهب إلى والدته فيرفض زوجها دخوله إلى منزله بحجة أن لديه بنات ويقوم بطرده، ويذهب إلى منزل والده ليطمئن على إخوته الصغار، فتطرده زوجة أبيه، وإن حنّ قلبها وسمحت له برؤية أشقائه، فإنها تتهمه أمام أبيه إما بالسرقة أو بأنه يقوم بتصرفات غير سوية، فيضربنه ويطردنه، والآن مرّ عام ونصف العام ولم ير أياً من والديه. لذا، يقيم إسلام حالياً مع عدد من رفاقه في “المهنة”، في غرفة بمخيم الحسين، يتقاسمون أجرتها، مشيراً إلى أن حصيلته اليومية من المال تصل أحياناً إلى 30 ديناراً.

ما يجمع هؤلاء الأطفال أنهم “يعيشون خارج إطار المؤسسات الرسمية”، بحسب عميد كلية العلوم التربوية في الجامعة الأردنية، نزيه حمدي، الذي يشرح أن هؤلاء الأطفال هم في عمر المدرسة، لكنهم ليسوا على مقاعد الدراسة، ما يؤدي إلى حرمانهم من فرص الحد الأدنى من التعليم، ويعرّضهم لكثير من السلوكيات والانحرافات غير المقبولة اجتماعياً، مثل “شم التنر والبنزين، التدخين، شرب الكحول، الشذوذ الجنسي، العلاقات الجنسية المحرّمة”، وهو ما يدفع هؤلاء الأطفال أخيراً لاحتراف السلوك الإجرامي في عمر متقدم، نتيجة إفتقارهم إلى التعليم وأسس التربية السليمة والقيم الاجتماعية المناسبة، وبهذا يكون “المجتمع هو الخاسر نتيجة تحول هذه الفئة إلى معاول هدم بدلاً من أن تكون مداميك بناء، تساهم في تنمية مجتمعاتها وأوطانها”.

حمدي يرفض إلقاء اللوم في انتشار ظاهرة “أطفال الشوارع” على الفقر والظروف الاقتصادية، ذلك أن “هناك كثير من الأشخاص أصبحوا الآن في مراكز مهمة، عاشوا حالات من الفقر المدقع”، ويرى حمدي أن هذه الظاهرة سببها “التفكك الأسري والانحرافات الاجتماعية والسلوكية داخل الأسر”.

تحاول منظمة “كوست سكوب للتنمية الاجتماعية في الشرق الأوسط” المساهمة في معالجة هذه الظاهرة، بحسب مدير البرامج التعليمية فيها، هيثم سلطي الزعبي، الذي يقسم الأطفال الذين يمضون وقتهم بالعمل في الشوارع إلى فئتين: الأولى هي فئة “الأطفال المعرضين للخطر”، وهم الذين يقضون معظم أوقاتهم في الشارع، ثم يعودون في نهاية المطاف إلى البيت، بغض النظر عن سوية هذا البيت وماهية السلوكيات التي قد تواجه الطفل داخله من قبل الأهل. أما الفئة الثانية فهي فئة “أطفال الشوارع”، الذين يعيشون في الشارع 24 ساعة، ويتخذونه مأوى لهم، وهؤلاء يكونون معرضين للخطر أكثر من أطفال الفئة السابقة.

المنظمة، بحسب ما يشرح الزعبي، تقوم بالتعاون مع عدد من الوزارات والمؤسسات الحكومية وغير الحكومية، بالسعي للحد من هذه المشكلة الخطيرة، من خلال عدد من البرامج التي تعمل على حماية هؤلاء الأطفال، ومساعدتهم على إعادة الثقة بأنفسهم، ومنها “برنامج الصديق” الذي يهدف إلى إيجاد نموذج إيجابي في حياة هؤلاء الأطفال، حيث يقوم عدد من طلاب الجامعات المتطوعين ببناء علاقات صداقة مع هؤلاء الأطفال، من خلال لقاءات دورية قد تبلغ أربعة لقاءات في الشهر، مدة كل منها ساعتان، تجري في أماكن عامة كالمطاعم والمكتبات والحدائق العامة، يحاول فيها المتطوع منح الطفل الطمأنينة والثقة بالنفس، من دون نقله من واقعه إلى واقع آخر.

هناك أيضاً برنامج “تعزيز الثقافة للمتسربين”، وهو ينظم بالشراكة مع وزارة التربية والتعليم، بحسب ما يضيف الزعبي، مشيراً إلى أن نحو 3000 طفل قد التحقوا حتى الآن بالبرنامج، الذي تقوم فكرته على تقديم التعليم المسائي للأطفال، بحيث يعمل الطفل خلال النهار ثم يلتحق بالمؤسسة ليتعلم، ويعتمد البرنامج “أسلوب التعليم التشاركي الذي يتضمن أساليب الحوار والنقد البناء، ويحصل الطفل بعد انتهاء فترة الدراسة المقررة للبرنامج والبالغة 24 شهراً على شهادة تعادل الصف العاشر لغايات التدريب المهني، كي يتخرج بدرجة عامل ماهر، إلى جانب ما يكتسبه فيه من مهارات حياتية”.

ماذا تفعل مؤسسات “رسمية” تجاه هؤلاء الأطفال؟.

بثينة فريحات، مسؤولة شبكة المنظمات غير الحكومية ومؤسسات المجتمع المدني المعنية بحقوق الطفل في المركز الوطني لحقوق الإنسان، تبين أن المركز يعمل حالياً، مع عدد من المؤسسات لإعادة النظر في التشريعات التي تمس هؤلاء الأطفال، كي تُفرض عقوبات مشددة على الآباء الذين يهملون عودة أبنائهم إلى البيوت، أو الذين يطردون أولادهم من المنازل ويرمونهم في الشارع، إلى جانب تشديد العقوبات على أرباب العمل، الذين يقومون باستغلال هؤلاء الأطفال في أعمال غير مشروعة.

هذا في الجانب القانوني والتشريعي، فهل ألقي “الجانب الثقافي”، أي مجموعة المفاهيم التي يتعامل بها المجتمع مع هؤلاء الأطفال، على القطاع الأهلي وحده؟ وهل يفي ذلك بالغرض؟.

يحلمون بالمدرسة والعيش في أسر متحابّة “أطفال الشوارع”: ضحية تفكّك الأسر والتقصير الرسمي
 
19-Mar-2009
 
العدد 68