العدد 67 - الملف
 

نهاد الجريري

عُرفت مادبا في خمسينيات وستينيات القرن الماضي باسم “موسكو الصغيرة” لكثرة ما فيها من شيوعيين كانوا جزءا من حراك سياسي وحزبي، شارك في تشكيله أيضا، البعثيون والقوميون العرب. في مرحلة متأخرة نسبيا، ظهرت الحركة الإسلامية. الحراك السياسي في مادبا ظهر قبل ذلك

التاريخ، كما يقول منير الحمارنة، الأمين العام للحزب الشيوعي الأردني الذي يرى أنه كانت ثمة اصطفافات عشائرية ذات طابع سياسي ارتبط بسنوات ما قبل تأسيس الإمارة؛ مثل مشاركة المادبيين في ثورة ابن عدوان. كما شاركت شخصيات مادبية في المؤتمر الوطني الأردني الأول عام 1928 ، الذي عقد في مقهى حمدان بوسط البلد، وهو المؤتمر الذي ضم 150 شخصية أردنية أكدت رفض المعاهدة مع بريطانيا ورفض وعد بلفور، وطالب بتشكيل حكومة مسؤولة أمام مجلس نيابي منتخب في صورة نزيهة.

علي أبو ربيحة، النائب السابق في البرلمان، يشير إلى أن تجمعات عشائرية في تلك الفترة شجبت الهجرة اليهودية الأولى ودعمت الثوار الفلسطينيين، وبخاصة في ثورة 1936 . في فترة لاحقة وتحديدا بعد الحرب العالمية الثانية وبداية حرب 1948 ، شهدت المنطقة تطوع عدد كبير من أبنائها للقتال في فلسطين، سواء من أهل مادبا أو الجوار. هذا كله ساعد في إحداث حراك سياسي واسع في الأردن كان مقدمة لنشاط سياسي انتعشت بفضله الأحزاب السياسية.

يُضاف إلى ذلك أن كثيرا من أبناء مادبا كانوا من خريجي الجامعات العربية المحيطة بالأردن، مثل مصر وسوريا والعراق والجامعة الأميركية في بيروت. هؤلاء عادوا إلى المدينة محملين بالفكر الشيوعي والبعثي والقومي. الحلقات الماركسية في مادبا ظهرت على الأرجح نهاية الأربعينيات، أي قبل تأسيس الحزب الشيوعي الأردني. ومن أعلام تلك الفترة إبراهيم الطوال وحنا الهلسة وغالب هلسا، نسيم طوال، منذر قراعين. هؤلاء نشطوا في نشر الفكر الشيوعي. الكاتب الأردني زياد أبو غنيمية يذكر أن الطوال وهو خريج الجامعة الأميركية في بيروت كان يعمل على تجنيد شبان شيوعيين وذلك أثناء فترة تدريسه في مدارس إربد.

ويروي الحمارنة أنه عندما كان في الخامسة عشرة من عمره، انتسب إلى هذه الحلقات، وكان يعمل مع آخرين من زملائه الأكبر سنا على إعادة نسخ المجلات التي تصدرها الأحزاب الشيوعية العربية مثل الحزب الشيوعي السوري اللبناني والحزب الشيوعي العراقي ويقومون بتوزيعها.

أما قدامى القوميين في مادبا، فيذكر إميل يعقوب عزيزات أن طبيبا من أصل لبناني يملك عيادة في مادبا، هو شفيق زهران، ربما كان أول من كون حلقة للقومين السوريين في المدينة التي كان من روادها توفيق سلايطة، شكري سالم اليعقوب صوالحة، وفي فترة لاحقة طارق مصاروة، وكمال مصاروة ودخل الله كرادشة وحابس المعايطة.

يذكر عزيزات أنه كان في سنة 1946 يدرس في مدرسة الفريندز في رام الله مع بنات زهران، الأمر الذي قارب بينه وبين الرجل ومكنه من التعرف على فكره. ويضيف أنه كان يستمع إلى الجلسات السرية التي كان يعقدها القوميون الأوائل في بيت والده، فتشرب فكرهم واتبع خطاهم.

من المحطات البارزة في عمل القوميين في مادبا ما حدث في عام 1953 ، عندما حضر جورج حبش، الذي أسس للعمل القومي العربي في الأردن، إلى المدينة ليقيم مهرجا انتخابيا، إذ ترشح للانتخابات النيابية في ذلك العام. وقتها، خطب عزيزات في المهرجان مشيدا بدور حبش. لكن الشيوعيين الذين كانوا يساندون عبد الرحمن شقير أقاموا مظاهرة مناوئة لمهرجان حبش، ما أبرز الاختلاف بين القوميين والشيوعيين في تلك الفترة.

في الوقت نفسه تقريبا ظهر البعثيون في المدينة. لكن أكرم مصاروة يلفت إلى أنه لم يكن ثمة حضور قوي للبعثيين في مادبا. هذا لم يمنع من ظهور رواد مثل منصور وضافي الجمعاني، وليد نويران وفايز الحوراني. حركة الإخوان المسلمين ظهرت في الفترة هذه تقريبا، وهي الفترة نفسها التي شهدت بدايات الحركة في الأردن بتأثير من سعيد رمضان، أحد قيادات الإخوان المسلمين في مصر، وزوج ابنة مؤسس جماعة الإخوان حسن البنا الذي أرسله إلى بلدان عربية منها الأردن. نشاط الجماعة كان في البداية أقرب إلى العمل الخيري، لكنه ظل موجودا بصورة نسبية، وبخاصة في فترة الستينيات مع بداية العمل الفدائي في الأردن، فانخرط كثر في العمل الفدائي من ناحية وتأثروا بفكر إسلاميين جاؤوا من غرب النهر، من هؤلاء محمد فؤاد أبو زيد الذي حضر من قباطيا قرب جنين للتدريس في ثانوية في مادبا. فكان يعلم الطلاب ويوثق علاقته بالأهالي. وكان من أعلام هذه الفترة أحمد عويضة وعبد المهدي المعايعة وحمد عبد الرحمن خليفة، من السلط، وكان قاضيا للصلح في مادبا لكنه أصبح مراقبا عاما للإخوان المسلمين في الأردن.

إلا أن طارق مصاروة، قومي سوري، يلحظ أن نشاط الإخوان في الستينيات والسبعينيات لم يكن ذا بال؛ لكنه نشط بشكل خاص بعد الثورة الإسلامية في إيران أواخر السبعينينات وبداية الثمانينيات. من مظاهر هذا النشاط أن فاز أحمد اقطيش الأزايدة في انتخابات رئاسة بلدية مادبا للمرة الأولى في تاريخ المدينة بعد أن ظل حكرا على المسيحيين.

حول طبيعة العلاقة بين الإسلاميين والأحزاب الأخرى في مادبا، يلفت إميل يعقوب عزيزات إلى أن الشيوعيين في فترة مبكرة تحالفوا مع الإسلاميين ضد القوميين. إلا أن «العداوة مع الإخوان تكشفت مع ظهور موقف غير وطني لدى الإخوان ،» بحسب عزيزات. ويشرح أن الإخوان بدأوا في مادبا يعتبرون المسيحي مواطنا من الدرجة الثانية. لكن الفلاحات ينفي ذلك، مدللا على رأيه بأن انتخابات 1989 ، شهدت فوز الإسلاميين بمقعدي المسلمين في المدينة وهما النائبان أحمد اقطيش الأزايدة، وعبد الحفيظ علاوي؛ بالإضافة إلى فوز نائب مسيحي تلقى دعما من الحركة الإسلامية وهو الدكتور سعد حدادين.

مادبا السياسية: من “موسكو الصغيرة” إلى معقل للإسلاميين
 
12-Mar-2009
 
العدد 67