العدد 67 - الملف
 

«ترى أية رؤى تثيرها رؤية تلك الأخربة، شبه حارس ضائع على حدود الصحراء ».. عبارة خطها المستشرق هنري لامنس، لدى حلوله بمادبا في أواخر القرن التاسع عشر.

يرجع تاريخ مادبا إلى العصر الحديدي (1200 - 1160) ق.م، وتذكر كتب التاريخ أنها سميت بهذا الاسم الآرامي المركب من «فيا- أي ماء ودبيا أي الفاكهة »، ومعناه المكان الطيب، أو المياه الهادئة الفاكهة، أو جنة الفاكهة أو الأرض الخصبة. ورد أقدم ذكر لمادبا في منتصف القرن 13 .ق م، ولكن الثابت أن تاريخ مادبا يبدأ بالفترة المؤابية، أي حوالي سنة 1180 ق. م، قبل أن يستولي عليها الأموريون في عهد ملكهم سيحون الذي جعل من حسبان عاصمة له. يذكر العهد القديم أن انتصار العبرانيين على سيحون الأموري بعد خروجهم من مصر أدخل مادبا تحت الاحتلال العبراني، فقد ورد اسمها في نشيد الاستيلاء، ومن قمة جبل نبو أشار النبي موسى إلى أرض الميعاد.

استرد ميشع، ملك مؤاب، مادبا من يد العبرانيين في القرن التاسع قبل الميلاد ونصبه الشهير ما زال ماثلا يتحدث عن انتصاراته على العبرانيين.

تعاقب البابليون والأشوريون على مادبا في القرن التاسع ق. م، ثم الهللينيون «خلفاء الاسكندر الأكبر »، إلى أن مد الأنباط سيطرتهم من دمشق شمالاً وحتى مدائن صالح جنوبا، في القرن الثاني قبل الميلاد، أي على كامل الطريق السلطاني الشاملة جميع أملاك مؤاب وعمون وآدوم.

الطابع النبطي طغى على ملامح المدينة الواقعة على حدود الحضارة، حتى إطلالة النسر الروماني في القرن الثاني ق.م، ما دعا العالم البيزينطي ستيفانس للقول (مادبا مدينة الأنباط). خضعت مادبا للحكم الروماني، وخلال عهد المكابيين (حوالي 165 ق.م.)، سيطر العمونيون على المدينة، ولكن حوالي العام 110 ق.م. احتلها يوحنا هيركانوس بعد حصار دام فترة طويلة. وبقيت مادبا في أيدي اليهود حتى مجيء اسكندر ينيس.

وفي القرن الأول قبل الميلاد خضعت لحكم الحشمونيين حيث انتزع ملكهم اسكندر حانوس المدن الاثنتي عشرة، ومنها: حسبان، مادبا، لب،

جلول، لكي يؤمن له توازنا في السيطرة، ولم يجد أفصل من مكايروس (مكاور) لبناء قلعه حصينة كانت أقوى موقع عسكري بعد القدس. ودمر الرومان مكاور سنة (57 ق. م)، وفيها قطع رأس يوحنا بأمر من هيرودس، الذي نصبه الرومان حاكما على المملكة الجنوبية.

استعاد الأنباط مادبا في زمن ملكهم (عبد عبادة) من يد هيرودس، لكن الرومان أعادوا احتلال مادبا لتصبح جزءاً مما أسموه «المقاطعة

العربية » وذلك سنة 106 م. نعمت خلاله مادبا بازدهار كبير، وسُكّت فيها نقود خاصة بها، تحمل على وجه اسم مادبا وعلى الوجه الآخر صورة

الإمبراطور ألكساندر سفيروي، وفي العهد الثاني صورة الإمبراطور كركلا وعلى الوجه الآخر صورة عشتار إلهة المدينة مع اسم مادبا، وهي إلهة الخصب والحب والجمال عند الكنعانيين وأقوام أخرى عاشت في بلاد ما بين النهرين. بعد تحول الإمبراطورية الرومانية للمسيحية وانقسامها العام 395 ميلادية، خضعت مادبا للسيطرة البيزنطية، وأصبحت مركزا لأبرشية فلسطين الثالثة، بعد أن تسربت الديانة المسيحية لمادبا في القرن الرابع الميلادي. ورغم الاحتلال الروماني، فإن أهل مادبا بقوا عرباً أنباطاً يفاخرون بذلك من خلال استعمالهم لغتهم النبطية حتى في كتابة أدعية موتاهم الجنائزية. وصلت طلائع جيش الفتح الإسلامي إلى مادبا في القرن السادس الميلادي. واصلت المدينة ازدهارها في العصر الأموي وبعض العصر العباسي، وبنيت بها كنائس وحمامات، غير أن النسيان طواها في عصور لاحقة. العام 1880 استوطنتها عشائر عربية مسيحية، جاءت من الكرك، وأعادت إحياءها من جديد.

مادبا في التاريخ: حياة وموت وانبعاث
 
12-Mar-2009
 
العدد 67