العدد 67 - ثقافي
 

مراجعة: فريد لاوسون*

كان أحد التفسيرات لغياب الديمقراطية الليبرالية في الشرق الأوسط، هو أن خطة من هذا القبيل خاسرة منذ البداية. فقد كانت تتطلب إثبات أن أموراً معينة لم تتوافر، وربما لم يكن ممكناً أن تتوافر في هذا الجزء من العالم: الفردية، المؤسسات الانتخابية المؤثرة، حكم القانون والتسامح تجاه الآراء والمنابر السياسية المتباينة. فقد كان في نيتها إهمال فصول مهمة من الحاكمية الديمقراطية الليبرالية التي قد تكون استمرت، لو أن الأمور سارت في طريقة مختلفة. كما أن الأمر الأهم على الإطلاق، هو أنها كانت تتضمن فكرة أصيلة تتمثل في أن العبرة في الخواتيم، التي من خلالها تُعدّ الديمقراطية الليبرالية الحالة الطبيعية التي تسعى الأنظمة السياسية جميعاً نحوها مهما توقف المسعى، رغم أي منعطفات في الطريق.

مع ذلك، فإن عدداً قليلاً من العلماء تخلّوا عن هذه الفكرة المحكومة بالفشل، وتحولوا إلى برنامج أكثر وعداً بكثير، هو برنامج البحث الخاص باستكشاف السبب الذي تستمر بفضله الأنظمة السلطوية وتنتعش، سواء في الشرق الأوسط أو في أي مكان آخر في العالم. تثبت المقالات العشر التي يضمها هذا الكتاب، ليس فقط مدى صعوبة تبني هذا الانتقال المفهومي الحاسم، بل وإلى أي حد يمكن للقيام بهذا الجهد أن يكون مجزياً.

مقولة «لماذا تغيب الديمقراطية الليبرالية » تناقشها إيفا بيلين، مناقشةً مثيرة للتأمل، مشيرة إلى العوامل الرئيسية التي منعت بلدانا في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا )مينا(، من اتخاذ خطوات مبدئية تجاه التحرر السياسي )ص 25 - 24 (. القول: «إن الإرادة القوية للدولة في منطقة )مينا(، وقدرة جهازها القهري على قمع أي بارقة أمل في مبادرة ديمقراطية، هو الذي أخمد إمكانية الانتقال » )ص 26 (، يشير إلى أهمية إعادة النظر في دور الجيش في السياسة في الشرق الأوسط. تشير بيلين إلى أنه «كلما تمأسس الجهاز الأمني، أصبح أكثر قابلية لفك ارتباطه بأي قوة، والسماح لإصلاح سياسي جديد بأن يمضي قدماً » )ص 28 (. ما يمكن أن يعنيه المرء من القول إن بلداً واحداً هو مصر، مثلاً، يقدم درجة من المأسسة في الجهاز العسكري أكثر من سورية، مثلاً، يبقى أمراً غير واضح. قد تشير مثل هذه الجملة ضمناً إلى أن الضباط العسكريين «يتمتعون بإحساس بهوية متميزة منفصلة عن الدولة ،» لكن يبدو أنها تعلن أيضاً أن مزيداً من المأسسة يتضمن «التزاماً بمهمة وطنية أشمل تخدم الصالح العام، مثل الدفاع الوطني والتطورات الاقتصادية، أكثر من التعظيم الشخصي فقط » )ص 29 (. ولا شك في أن الاسترسال في شرح الأبعاد الأكثر أهمية لهذه الفكرة سوف يعزز فهمنا للظروف التي تستمر فيها الأنظمة السلطوية. تحليل مايكل هيرب، للهدف المتطور للملكيات الدستورية، يوازي مقالةَ بيلين من حيث الأهمية. في تناوله اتجاهاتٍ تبلورت أخيراً في الكويت، والبحرين، وقطر، وعُمان، وعبر مقارنتها بالتطورات في عدد من الملكيات الأوروبية، الأردن، والمغرب، والسعودية.

من بين المعوقات الرئيسية أمام بروز حكم برلماني: «حكومات تسرق الانتخابات »، و «دساتير لا توفر للبرلمانات ما يكفي من السلطات »، و «غياب للأحزاب السياسية أو الكتل البرلمانية »، و «تشويه النظام الانتخابي، ما يؤدي إلى تمثيل متدنٍّ للمعارضة في البرلمان » )ص 175 (. مثل هذه العوائق تبدو الأقل تأثيراً في الكويت، وهي تمثل ضغطاً أكبر قليلا في قطر، لكنه أكثر إثارة للمتاعب في البحرين )ص 18 167 -(. مرة أخرى فإن هنالك حاجة إلى كثير من العمل، لأن حالات الدراسة السبع مختصرة جدا، بحيث لا تتعامل بشكل صحيح مع جميع العوائق الموجودة، ومعالجة البحرين )حيث «أكثر العوائق جدّية أمام البرلمان هي الطائفية ،» ص 178 ( تبدو مختلفة كثيرا عن الآخرين. قريبا من سؤال: «لماذا

تستمر السلطوية؟ »، يأتي إسهام إلين لاست أوكار، بمناقشتها الجدية لعلاقات الحكومة والمعارضة )ص 144 (، وكذلك وجهة نظر فيكي لانغور المثيرة للتفكر حول تأثير المنظمات غير الحكومية. تجادل أوكار بأن استمرار الأنظمة السلطوية هو الاحتمال الأكبر إذا ما واجهت بنى متنازعة ومقسمة ) «حيث يسمح المتصارعون لبعض الخصوم في الاشتراك في النظام السياسي، ويستثنون آخرين »(، وأقل احتمالاً أن تفعل ذلك إذا كانت تواجه بنى موحدة لا يكون فيها «مسموحاً لأي خصوم سياسيين بالمشاركة في المجال السياسي الرسمي ،» أو «أن يكون جميعُ الخصوم مشاركين في النظام الرسمي » )ص 146 (. رغم أنها، بالنسبة لي، مقصودة في صورة واضحة في افتراضها أن الانقسامات بين قوى المعارضة تصنع عمداً من جانب «نخب متصارعة » )ص 144 (، إلا أن هذا النقاش يلقي ضوءاً قوياً على الصراعات المحلية في المغرب والأردن. تقدم لانغور زعماً مثيراً بأن النظم السلطوية تستمر حينما تتوحد قوى المعارضة في منظمات غير حكومية أكثر مما تفعل في أحزاب سياسية. وتنسج بقوة على

منوال التجربة الأوروبية، حين تؤكد أن المنظمات غير الحكومية «تدافع عموماً عن مصالح جماعة محددة أو عن أهمية مبدأ معين، مثل احترام حقوق الإنسان، وجعلها عاجزة عن تعبئة دوائر أكثر اتساعاً حول الهدف الأشمل لتغيير النظام » )ص 195 (. إلى ذلك، فإن مثل هذه المنظمات قد تصبح أكثر قابلية لأن تلوَّث بتهمة إقامة علاقة وثيقة بالقوى الفاعلة. وهكذا، فكلما وصلت المنظمات غير الحكومية إلى حالة غطت فيها على أحزاب المعارضة، تزدهر الأنظمة السلطوية. ويبقى للآخرين أن يقرروا إذا ما كانت لانغور قد هدمت بجرة قلم جيلاً كاملاً من الأبحاث حول أثر الديمقراطية في المجتمع المدني.

في بحثه عن إجابة عن سؤال: «لماذا تستمر النظم السلطوية؟ »، يقدم أنغار كيشافارزيان، وجهة نظر شاملة عن السياسة في الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وتقف معه في المعسكر نفسه ميشيل أنغريست، بمسحها الموسع لتطور نظم الأحزاب في الشرق الأوسط. يثبت كيشافارزيان أنه رغم أن البنية السياسة الفريدة للجمهورية الإسلامية تولد عدداً كبيراً من الثغرات القابلة للتفجر، داخل النظام وبين القوى الداخلية والخارجية في إطار التحالف الحاكم، فإن تفتت السياسة الإيرانية يمكّن السلطات من التسيد. يعود هذا في جزء منه إلى العدد الكبير من «نقاط الاعتراض » التي يجدها المرء في الساحة المحلية، وفي جزء آخر من مشاكل العمل الجماعي التي تبرز بين الذين يتّحدون، وفي جزء ثالث منه إلى «التشظي المتنامي للمجتمع الإيراني » )ص 81 - 82 (. على النقيض، فإن أنغريست تركز انتباهها على ملامح مؤسسية ثلاثة في النظام الانتخابي: «عدد

الأحزاب، مستويات الاستقطاب، وحضور عدم التجانس في التعبئة أو غيابه بين الأحزاب » )ص 120 (. في البلدان التي يكون فيها حزب واحد «مهيمن » لدى الاستقلال، فإن الأنظمة السلطوية سرعان ما تأخذ وضعها المناسب؛ وحيثما توجد تعددية حزبية في لحظة الاستقلال، فإن

الأنظمة السلطوية تبرز في ما بعد؛ ففي تركيا كان هناك فقط حزبان متنافسان العام 1923 ، حين بدأ نظام غير سلطوي في التجذر. بوسع المرء أن يعارض هذا النقاش من منطلقات مختلفة. فهل يمكننا حقا أن نصف النظام في تونس العام 1956 بأنه كان «نظام الحزب الواحد »؟، وهل كان النظام الجزائري في عهد بن بيلا سلطوياً منذ البداية؟ وهل كان هنالك حقّاً حزبان فقط في تركيا خلال العشرينيات؟ وهل حالة إسرائيل تنقض النظرية بمجملها؟.

اقتناع القارئ بالمقالات المنشورة في هذا الكتاب المثير للإعجاب، أمر هامشي. وكثيراً ما اشتكى طلاب متخصصون في شؤون الشرق الأوسط، من أن عملهم يلقى تجاهلاً من جانب الجزء الأعظم من المتخصصين بالدراسات المقارنة. لكن هؤلاء، من الآن فصاعداً، سوف يقومون بذلك على عهدتهم الخاصة، ليس فقط لأن هنالك مشاكل منهجية حادّة تحيط بأي دراسة للدمقرطة تتضمن فقط موقفاً إيجابياً )كما يشير جاسون براونلي،

بحقّ(، بل أيضا لأن المتخصصين في سياسات الشرق الأوسط يمكنهم أن يقدموا طرقَ تخلّص واعدة من الفخاخ المفهومية التي تصيب «النموذج الانتقالي .»

* قسم الحكومة، كلية ميلز، أوكلاند، كاليفورنيا

بالتعاون مع:

المجلة الدولية لدراسات الشرق الأوسط

International Journal of Middle East Studies

الديمقراطية الليبرالية في الشرق الأوسط: الحضور والغياب
 
12-Mar-2009
 
العدد 67