العدد 67 - ثقافي
 

عواد علي

في العشرين من آذار/ مارس الجاري، تمر الذكرى المئوية الثانية لميلاد عبقري الأدب الروسي، وأبي المدرسة الواقعية النقدية بلا منازع، نيكولاي غوغول (1809 - 1852)، الذي أرسى بموهبته القوية الرفيعة قواعد فن القصة القصيرة، حتى بات معظم كتّاب القصة في العالم يحلمون بارتداء معطفه الذي أصبح هاجساً كبيراً يدور في فلكه الجميع. المقصود ب «المعطف » هنا، قصةُ غوغول الشهيرة التي تحمل هذا الاسم، وقال عنها دوستويفسكي: «كلنا خرجنا من معطف غوغول ». أما الناقد الروسي تشيرنيشيفسكي، فذهب إلى ما يشبه هذا المعنى بقوله: «كل كتّاب عصرنا الموهوبين وُلدوا من غوغول ». من أبرز هؤلاء الكتّاب الذين تأثروا به تأثراً واضحاً، ورأوا فيه معلماً كبيراً: ليو تولستوي، وإيفان تورغينيف، ونيكولاي نيكراسوف، وساليتكوف شيدرين، ونيكولاي ليسكوف، إضافةً إلى دوستويفسكي.

وُلد غوغول في ضيعة سوروتشينكي بمحافظة بولتافا (أوكرانيا اليوم)، وكان يهوي التمثيل ويُعِدّ مسرحيات هزلية لفرق الهواة. وقد ورث هذه النزعة من أبيه، فكان يشارك في عروض التمثيل في مدرسته الثانوية متخصصاً في الأدوار الفكاهية. وعُرف بولعه بقراءة الكتب، بخاصةً كتب بوشكين. كما كان يحفظ الأمثال، والأقوال المأثورة، والكلمات الروسية ذات النكهة الخاصة، والأغاني. وأفاد من هذا كله في مجموعته القصصية عن أوكرانيا. وفي المدرسة كتب عدداً من الأعمال الصغيرة مثل: «سمكتان »، وقصيدة «روسيا تحت نير التتار ،» ومأساة «قطاع الطرق »، وكتاب «لا شيء عن نيجين، أو ليس هناك من قانون مكتوب للحمقى .»

عندما بلغ التاسعة عشرة من عمره، صار غوغول يحلم بأن يصبح محامياً، لأنه رأى في هذا الميدان أعمالاً جليلةً هي الخير للإنسانية، حسب تعبيره، إلاّ أنه فشل في تحقيق ذلك، وغادر الجامعة، متجهاً إلى العاصمة «سانت بطرسبورغ »، وهناك حاول احتراف التمثيل، لكنه أخفق أيضاً بسبب ضعف صوته وضآلة تكوينه الجسدي.

وفي نوبة يأس، اندفع ليعرض على الناشرين مجموعة شعرية، لكنه قوبل بالرفض، فنشرها على حسابه الخاص، غير أنها لقيت استهجاناً موجعاً من بعض النقاد، فاندفع غوغول ليجمع كل نسخها لإحراقها، وقرر الهجرة إلى أميركا، التي كانت ما تزال عالماً جديداً. وبالفعل ركب على ظهر أول سفينة مسافرة إلى الولايات المتحدة، غير أن السفينة ما كادت تلقي مراسيها في ميناء «لوبك » الروسي حتى غادرها، وعاد أدراجه إلى العاصمة ليقاتل بضراوة وعناد في سبيل تحقيق طموحاته في الإبداع والإصلاح، وقُدّر له أن يحظى بوظيفة كتابية بسيطة أمدّته بكثير من رؤاه في مسرحيته «المفتش العام .» العام 1830 ، ظهرت أول قصة لغوغول بعنوان «بيسافريوك »، نشرها في ما بعد بعنوان «أمسية عند ايفان كوبال ». وفي السنة التالية نشر مجموعة قصصية بعنوان «أمسيات بالقرب من ضيعة ديكانكا »، فحظيت بنجاح كبير، وأثارت انتباه الشاعر الكبير بوشكين، فتنبأ بسطوع نجم عبقري جديد في سماء روسيا، وقال: «لقد أذهلني هذا الكتاب. إنه المرح الحقيقي المخلص والصادر عن القلب. في بعض الأحيان أشعر كأنني أقرأ شعراً لا نثراً. ما أروع هذا الحس الموسيقي » . ودفعه إعجابه به إلى أن يصطحبه معه إلى حلقة ثقافية كان يلتقي فيها كريلوف وفيازيمسكي، وجوكوفسكي، وأدايفسكي والفنان برولوف.

العام 1832 ، نشر غوغول القسم الثاني من المجموعة القصصية نفسها. ثم توالت أعماله القصصية والمسرحية في الظهور، ومن أبرزها: رواية «تاراس بوالبا »، رواية «النفوس الميتة »، مجموعة قصص «ميرغورود ،» مسرحية «المفتش العام »، مسرحية «الزواج ،» وقصص: «شارع نيفسكي « ،» الصورة ،» «الأنف « ،» المعطف « ،» يوميات مجنون ،» «عربة »، و «مالكو أيام زمان .» كتب غوغول قصة «المعطف » من وحي تجربة عمله ناسخاً بسيطاً في مؤسسة حكومية، حيث أمدته تلك التجربته بفيض من الرؤى والأخيلة والمواقف الواقعية من الحياة البائسة للموظفين في العهد القيصري. ظهرت فكرتها لديه العام 1834 ، وبعد كتابتها قرأها مخطوطةً أمام بوشكين العام 1836 ، ووضعها في صيغتها النهائية للنشر العام 1842 . بطل القصة «أكاكي أكاكيفيتش باشماشكين »، موظف فقير يعيش وحيداً، يحاول قدر المتسطاع أن يبتعد عن الآخرين، ويجد لنفسه سعادة في عمله الذي يمارسه بلذّة ومتعة. ثم يحاول جاهداً أن يجمع ثمن معطف جديد ليستبدله بمعطفه القديم البالي الذي لم يعد يُجْدِ فيه حتى الترقيع، لكن يبدو أن التعاسة تطارد الفقير وتحسده حتى على قليل من السعادة ممثلة بمعطف، فما كاد يرتديه في أول أمسية يخرج فيها لزيارة زملائه حتى سُرق منه «بطريقة لا إنسانية » كما يقول، وعندما لم يجد تجاوباً من المفتش قرر أن يذهب لرؤية «شخص مهم » علّه يساعده في استعادة المعطف، لكنه يوبخه على سوء تصرفه وجرأته على الحديث مع رجل مهم مثله في أمر تافه كالمعطف. ويكاد أكاكي ينهار أمامه، ويخرج من مكتبه ليصاب على الفور بحمى تقعده السرير ويموت بعدها بثلاثة أيام.. وبموته، غاب ذلك المخلوق الذي لم يكن له من يحميه ولم يكن عزيزا على أحد، ولا شيقاً بالنسبة لأحد، والذي لم يجذب إليه انتباه حتى عالم الطبيعة الذي لا يدع ذبابة عادية دون أن يغرس فيها دبوساً ويفحصها تحت المجهر. وبعد موته يظهر شبحه يتجول في الطرقات، ويسرق معاطف الناس، ولا يرتاح إلا عندما يسرق معطف ذلك الرجل المهم. أكاكي في هذه القصة الرائعة، نموذج للإنسان المعرض للإهانة والاستهزاء، وهو لا يعرف أية سعادة أو تسلية. وعندما كان يعود إلى البيت يفكر بأنه أخ لجميع الناس، وأن أساس الحياة هو الخير.

بقدر ما تبعث «المعطف » على السخرية السوداء، فهي تثير الاستياء من عالم الظلم والعبودية. إنها احتجاج غاضب وعنيف. وقد استطاع غوغول من خلالها أن يجد الشيء المأساوي، ليس في الكوميديا، بل في دناءة الحياة ووضاعتها، وأصبحت القصة مثالاً فنياً كشف أيضاً عن سر شخصية غوغول الإبداعية، التي أذهلت القارئ بروحها الإنسانية، وتعاطفها الحاد مع هموم الإنسان البسيط الكادح ومحنه.

الذكرى المئوية الثانية لميلاد صاحب “المعطف” غوغول عبقري الأدب الروسي
 
12-Mar-2009
 
العدد 67