العدد 67 - الملف
 

سعد حتر

«الولايات المتحدة وسائر دول الغرب لا تهتم إلا بمن يشاغب عليها ويستخف بمصالح حلفائها الدائمين »، ذلكم كان توصيف رئيس وزراء الأردن الراحل، وصفي التل، لسياسة واشنطن الخارجية في مطلع ستينيات القرن الماضي.

الملك الحسين بن طلال نقل التذمر ذاته إلى السفير البريطاني في عمان، رداً على اعتراف واشنطن بالانقلاب الجمهوري في اليمن الشمالية في ستينيات القرن الماضي، رغم أن الانقلابيين كانوا يتمتعون بدعم الرئيس المصري جمال عبد الناصر، العدو المعلن لأميركا آنذاك. ردة الفعل تلك التي وثقّها الأكاديمي البريطاني في كتابه «أسد الأردن »، تختزل نظرة القيادة الأردنية حيال الدولة العظمى، التي أضحت «حليفته الاستراتيجية » عقب دخوله معاهدة سلام مع إسرائيل قبل 15 عاماً.

منذ استبدل الرعاية البريطانية بالمظلة الأميركية في منتصف القرن الماضي، تعرّض الأردن، المحاط ببؤر توتر كثيرة، لهزّات عدّة كانت أعنفها خسارته للضفة الغربية في صيف 1967 ، والولايات المتحدة تحت إدارة الرئيس الأميركي لندون جونسون. منحى العلاقات الثنائية مر عبر نقطتي انحدار كادتا أن تنسفا أسس الصداقة؛ الأولى قبل وأثناء المواجهات المسلحة بين الجيش الأردني، والفصائل الفلسطينية المسلحة (1970)، والثانية بعد حرب الخليج الثانية (1991-1990)، حين أبعدت الدبلوماسية الأميركية عمّان عن شاشة رادارها في المنطقة، وخفضت مساعداتها السنوية لها إلى سبعة ملايين دولار. يتساءل وزير داخلية أسبق: كيف يمكن لدولة عظمى أن «تحمي بلداً وتموّل موازنته من جهة وتهدّد وجوده في آن؟ .» التحدي الأكبر يكمن في نكوص أميركا أمام سياسات إسرائيل التوسعية على حساب الأردن، على ما يشخص رئيس الوزراء الأسبق طاهر المصري، الذي يرى أن «عدم استعداد واشنطن للضغط على إسرائيل من أجل تفعيل عملية السلام يشكل خطراً داهماً على الأردن .»

في عهدي الراحل الحسين بن طلال، والملك عبدالله الثاني، ظلّت إسرائيل حاضرة طرفاً ثالثاً في العلاقة مع الولايات المتحدة. في محطات عدّة كان تأثيرها سلبياً، لا سيما محاولات الجارة الغربية لإحباط مشاريع السلام منذ خطّة روجرز، وقرار مجلس الأمن 242 وحتى الآن.

فوعود جونسون للحسين بعد ستّة أشهر على حرب حزيران/يونيو 1967 باسترداد الضفّة الغربية مقابل السلام تبخرّت. وظلّت واشنطن تحابي إسرائيل، في أحيان كثيرة على حساب مصالح جارتها الشرقية. لكن علاقة الولايات المتحدة مع إسرائيل ساهمت مراراً في دعم الأردن أو تذليل عقبات من قبيل منح مساعدات أميركية للأردن. فبعد معاهدة السلام، وظّف الحسين بن طلال، نفوذه لدى رئيس وزراء إسرائيل الراحل إسحق رابين في الطلب من منظمة (إيباك) اليهودية الضغط على إدارة بيل كلنتون، لشطب جزء من دين أميركا المقدر، آنذاك، بنحو 700 مليون دولار، حسبما يستذكر أحد كبار المفاوضين في ذلك الوقت.

لكن منذ خريف 2001 ، نجح الملك عبدالله الثاني في إبعاد ظلال إسرائيل عن علاقة بلاده بأميركا، ورسم لها خطاً موازياً بعد أن اخترق دوائر الإدارة والتشريع معاهد رسم السياسات. رئيس الوزراء الأسبق علي أبو الراغب، يرى أن الأميركيين «براغماتيين ويتعاملون مع من يمتلك أوراقاً إقليمية قوية ». ويؤكد أبو الراغب أن الصمود أمام التحدي الأميركي يتطلب «تقوية الجبهة الداخلية .» رئيس الحكومة الأسبق معروف البخيت (2005 - 2007) يصف العلاقة مع واشنطن بأنها «استراتيجية ». ويقول: «طول عمر الأميركان لهم مطالب لكن لا يضغطوا علينا (..) لكننا قد نتبرع كأفراد لتنفيذ سياسات قريبة من توجهاتهم .» وبينما يستذكر مقولة وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر، بأن بلاده «تتحرك على وقع إدارة الأزمات » بأثر رجعي، يضيف البخيت: «أميركا تقول للطرفين أقعدوا مع بعض وحلوا مشاكلكو. لكنها لا تستطيع الضغط عليهم .»

المشكلة تكمن، بحسب البخيت، في «احتكار الأميركيين لرعاية عملية السلام في وقت هم أضعف من أن يضغطوا على إسرائيل، لأنهم غير راغبين وغير قادرين .» إزدواجية مقاربة واشنطن تبدو متناقضة مع دفء العلاقة الثنائية. في كتابه الحجاب »The Veil« ، تحدث الصحفي الأميركي في صحيفة «واشنطن بوست » بوب وودورد، عن عروة وثقى بدأت العام 1957 بين الراحل الحسين بن طلال، ومؤسسات أميركية، حتى أوقفها الرئيس الديمقراطي جيمي كارتر العام 1977 . في غمرة المواجهات العسكرية بين الجيش والفصائل الفلسطينية المسلحة في أيلول/سبتمبر 1970 ، اعترض الملك الحسين مكالمة سرية يقول فيها القيادي الفتحاوي فاروق القدومي، لمسؤول في وزارة الخارجية الأميركية: «غداً سنستلم عمّان ». جاء الجواب من خلف الأطلسي: «ونحن معكم »، حسبما يستذكر مسؤول رفيع سابق خدم في عهد الملك الراحل.

بعد أن هدأت الأوضاع وأخرجت الفصائل المسلحة من الأردن، زار الملك واشنطن، واستفسر من الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون، عن تصرف وزارة الخارجية، فرد نيكسون: «جلالة الملك نحن نراهن على الحصان الرابح. وأنت الآن الرابح .» التوتر بين البلدين وصل ذروته قبل أربعة أشهر من اندلاع مواجهات أيلول/سبتمبر، حين اعتبر الملك الحسين السفير الأميركي في عمّان لويس دين براون، شخصاً غير مرغوب فيه، احتجاجاً على إصداره تقارير زعم فيها أن الدولة الأردنية غير قادرة على ضمان أمن مسؤولين أميركيين يعتزمون زيارة المملكة. على أن شهادة مدير محطة عمان في وكالة الاستخبارات المركزية (السي آي إي) جاك أوكونيل عكست المد المناهض للأردن في الإدارة الأميركية حين استدعاه نيكسون لإبداء رأيه حول موازين القوى. إذ قال أوكونيل: إن في إمكان الجيش الأردني إنهاء المواجهات وطرد الفصائل المسلحة خلال أسابيع، حسبما نقل عنه أكثر من مصدر أردني. كشف المسؤول الأميركي عن تلك الواقعة في حوار مغلق على هامش مشاركته في جنازة الراحل الحسين بن طلال في شباط/فبراير 1999 .

واتضح لاحقاً أن حلقات صنع القرار الضيّقة في الأردن كانت على علم بتلك الشهادة التي قلبت موازين الدعم الخارجي. بعد أربعة عقود من أيلول، تعيد مراكز قوى ومعاهد رسم سياسات أميركية مقربة من تيار المحافظين الجدد بصراحة عن «الخيار الأردني » بديلاً من إقامة دولة فلسطينية في الضفة الغربية، وذلك بعد أكثر من عقد على دفن المشروع الذي بدأ الحديث عنه يتردد في أواخر السبعينيات. في نيسان/ أبريل 2004 ، أوشك عبدالله الثاني أن يلغي قمّة مجدولة في البيت الأبيض مع الرئيس الأميركي السابق جورج بوش احتجاجا على تبادل رسائل بين الأخير ورئيس وزراء إسرائيل السابق آريئيل شارون، تنسف أسس الحل الدولي المرتكزة إلى انسحاب إسرائيل من الأراضي التي احتلتها العام 1967 ، حسبما يستذكر وزير الخارجية الأسبق مروان المعشر في كتابه «الوسط العربي.. وعد الاعتدال ». تزامنت رسالة بوش التي أقرت بالوضع القائم على الأرض مع تحضيرات انسحاب إسرائيل من قطاع غزّة، ما عمق قلق الأردن من وجود تنسيق بين تل أبيب وواشنطن لإجهاض فرص إقامة دولة فلسطينية. في كتابه المشار إليه، يصف السياسي والدبلوماسي الذي خدم في تل أبيب وواشنطن كيف تميّز الملك غضباً حيال الرسائل المتبادلة بين شارون وبوش، وأوشك على إلغاء زيارته لواشنطن. كما ربط الطرف الأردني بين عقد القمّة، وصدور رسالة عن المكتب البيضاوي تلغي أو تخفّف أثر رسالة بوش. وزاد الطين بلّة إقدام إسرائيل على قنص بد العزيز الرنتيسي، زعيم حماس، الذي خلف مؤسس هذه الحركة الشيخ أحمد ياسين، عقب اغتيال الأخير، قبل ذلك التاريخ بأسابيع. قبل أن يغادر الملك كاليفورنيا صوب واشنطن، أوفد المعشر ومدير المخابرات العامة، آنذاك، المشير سعد خير، ووزير الديوان الملكي سمير الرفاعي، للتفاوض حول صياغة رسالة مضادة تلغي مضامين تعهدات بوش وشارون المتبادلة. بعد نقاشات مطولة نجح المعشر، حسبما ورد في كتابه، في انتزاع رسالة مطولة تثبت حقوق الفلسطينيين في دولة مستقلة وتطمئن المملكة بأن ترتيبات الوضع النهائي لن تؤثر عليها. لكن خلال المفاوضات المكثفة مع وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس، ومساعد مدير مجلس الأمن القومي لشؤون الشرق الأدنى أبراهام إليوت، لحظ المعشر أن أحد ضباط المخابرات المركزية الأميركية سعى لثنيه عن نصح عبدالله الثاني بالقدوم إلى واشنطن. يستغرب المعشر أيضاً في كتابه من أن المشير خير بدا مؤيداً لرأي ضابط الاستخبارات الأميركية لجهة إلغاء الزيارة الملكية. بعد خمس سنوات من تلك الواقعة، ما زال المعشر يجهل الدافع وراء محاولة المشير خير وضابط الاستخبارات الأميركية دفعه إلى إقناع الملك بإلغاء زيارته، مع أنه يعتقد بأن السبب قد يعود لتفادي اصطدام الملك وبوش في جدال.

كان الملك قد غادر كاليفورنيا إلى عمّان بانتظار بلورة الرسالة. في المحصلة «لم تتم الزيارة وخسرنا الرسالة، فيما عرض الأميركيون نسخة مخفّفة عنها » لاحقاً، حسبما جاء في كتاب «الوسط العربي.. نهج الاعتدال .» ستة عقود، من دوايت آيزنهاور إلى بوش الابن، تأرجحت خلالها العلاقة الأردنية الأميركية بين الريبة والإسناد، وصولاً إلى التحالف الاستراتيجي أمنياً واقتصادياً. لكن القلق من السياسات الأميركية غير المعلنة المتأثرة بالبعد الإسرائيلي يبقى سيد الموقف.

رهان دائم على الحصان الرابع العلاقة الأردنية الأميركية: واشنطن " الخصم والحكم"
 
12-Mar-2009
 
العدد 67