العدد 65 - أعلام
 

فيصل دراج

عرفت الثقافة العربية، في القرنين التاسع عشر والعشرين، جهوداً فكرية متلاحقة، أخذت بتصورات حديثة، اعترفت بالعقل ووظيفته النقدية، وباختلاف أسئلة الحاضر عن الماضي، وبضرورة الانفتاح على المعارف والتجارب الإنسانية الكونية. وتطلّعت هذه الثقافة إلى حداثة عربيّة، تتأسس على الديمقراطية والمجتمع المدني والاستقلال الوطني وتحرر المرأة والحوار المجتمعي، بعيداً عن التعصب والأفكار الجاهزة.

قبل أكثر من مائة عام، شكا عبد الرحمن الكواكبي ) 1854 – 1902 ( مما دعاه ب : انحطاط المسلمين، وعثر على جذوره، بعد بحث استغرقه ثلاثين عاماً، كما قال، في سبب محدد هو: الاستبداد السياسي. دخل إلى علم السياسة من باب كبير، مبتدئاً بسؤال تطرّقت إليه أقلام مختلفة: «إن تقرير شكل الحكومة هو أعظم وأقدم مشكلة في البشر، وهو المعترك الأكبر لأفكار الباحثين،.. ». هجس السوري الذي مات مسموماً في القاهرة، بثلاث قضايا تقول: إن المستقبل الوحيد لأمة يسوسها حاكم مطلق، يراقِب ولا يراقَب، هو الموت، وأن الأنظمة المستبدة هي الأكثر فساداً بين النظم السياسية المختلفة، وأن النظام المستبد قادر على تشويه وجوه الحياة كلها. أدرج في خطابه، بشكل موسّع، ذلك القول الشهير: كل حكومة تنزع إلى الفساد، والمستبدة منها هي الفساد بعينه. ومع أنه ألّف أكثر من كتاب، طُبع بعضها وفُقد بعضها الآخر. فإن كتابه الأكثر شهرة هو : «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد »، الذي طُبع في حياته وكان، على الأرجح، سبب اغتياله. أراد الكواكبي أن يعطي كتاباً شاملاً في موضوعه، فعرّف الاستبداد وقرأ آثاره على العلم والأخلاق والدين والتربية وقضايا المال والثروة، وألمح إلى طرق التخلّص منه، وقارن بين غرب تحرر من الاستبداد، وشرق يعبث به المستبدون. ومع أن الكواكبي كان مسلماً فخوراً بدينه ومعتزاً بإسلامه، إلا أنه آثر أن ينطلق من المعيش والمحدّد، كما لو كان ينأى بالإسلام عن واقع سيئ متهماً، ضمناً، مسلمين يرضون بواقع لا يمكن القبول به، ذلك أن صورة الإسلام من صورة المنتمين

إليه، كما قال جمال الدين الأفغاني ذات مرة. وبسبب ذلك فصل فصلاً كاملاً بين الإسلام الحق، ونظام مستبد ينتمي، زوراً، إلى الإسلام، ولا يطبّق من تعاليمه شيئاً. بدأ الحلبي، الذي مارس الصحافة والمحاماة والتجارة، بتعريف الاستبداد، ليؤمّن لكتابه مرتكزاً نظرياً واضحاً يستند إليه. أعطى في بحثه تعاريف عدة، وتوقف أمام معنى «الاستبداد » في«اصطلاح السياسيين »، وهو: «تصرّف فرد أو جمع في حقوق قوم بالمشيئة وبلا خوف تبعه »، و «أن الاستبداد صفة للحكومة مطلقة العنان فعلاً أو حكماً التي تتصرّف في شؤون الرعية كما تشاء، بلا خشية حساب ولا عقاب محققين .» والواضح في التعريف حاكم مطلق، ورعية لا حقوق لها وعقاب صارم ينزله الحاكم بكل من يحتج على مشيئته الوحيدة. غير أن الوجه

الأكثر عمقاً في الكتاب يتمثّل بقدرة النظام المستبد على إنتاج تصورات وقيم ومعايير تلبي أغراضه مقترباً، في شروط معينة، من«خلق مجتمع » جديد مستبد بدوره، لا يعرف معنى الحرية والمشيئة الطليقة، بل يكره ويكفّر من يذكره برذائل الاستبداد وفضائل نقيضه. وعلى هذا فإن نجاح النظام المستبد لا يتمثل في إنتاج بشر يخافون الحكم ويتقون شره، بل في توليد «نسيج مجتمعي فاسد ،»ينبذ غير الفاسد ويطارده.

أفرد الكواكبي، بعد التمهيد النظري، فصلاً لعلاقة الدين بالاستبداد، متأملاً مواضيع ثلاثة: موقف العوام، أو الجهلة أو الدهماء من المستبد وتعظيمهم له، ذلك أن جهلهم يدفعهم إلى مساواة الحاكم المستبد بالإله المعبود، فهما، كما يعتقد العوام، يتقاسمان صفات الجبروت والانتقام والقدرة الكلية وإغداق النعم والمكافأة العظيمة...ويزيد الأمر خطراً انتشار خطاب ديني يساوي بين طاعة الله وإطاعة الحاكم، دون النظر إلى صفات الأخير ومناقبه. لا غرابة، والحال هذه، أن يجتهد المستبد في نشر الجهل ومحاربة المعرفة، والانتصار لأشكال «التّدروش » والتصوف المريض، وأن يمعن في توليد وتنشيط النزوعات الطائفية والتعصّب الديني، وكل ما يشد اهتمام الإنسان المستبدّ به إلى قضايا زائفة. مع ذلك فإن وحدة الاستبدادين الديني والسياسي تتمثل، أساساً، في فكرة «الواحدية المطلقة »، إذ المستبد فرد لا شريك له يصدر أوامر لا تقبل بالمساءلة، وإذ «المعتقد المستبد » يقول بحقيقة واحدة مطلقة لا يتطاول عليها إلاّ من كفر. ولهذا لا يستقيم الاستبداد، في الدين كما في الحكم، إلاّ بتأسيس المراتب، التي تضع كل فرد فوق آخر، وصولاً إلى فرد أخير لا يشبه غيره، هو المرجع الأعلى في كل شيء. يرد الكواكبي على الاستبدادين معاً، مؤكداً دور العلم والمعرفة، ومذكراً بمبدأ المساواة الذي جاء به الإسلام. ولهذا يمتدح هذان الاستبدادان العقل الممتثل، الذي يرضى ويقبل ويستقبل، دون مساءلة أو فضول. قدّم الكواكبي، في مجال «الاستبداد والعلم » أفكاراً لامعة، كثّفها في ملاحظتين: «المستبد لا يخشى علوم اللغة، تلك العلوم

التي بعضها يقوّم اللسان، وأكثرها هزل وهذيان »، ولا يلتفت إلى «العلوم الدينية المتعلّقة بالمعاد المختصة ما بين الإنسان وربه، لاعتقاده أنها لا ترفع غباءه ولا تزيل غشاوة ». وعلى خلاف هذه العلوم التي توطّد مواقع المستبد ترتعد من علوم الحياة مثل الحكمة النظرية، أو الفلسفة العقلية وحقوق الأمم...، أي أنه يقمع العلوم التي تفسّر أسباب الظواهر الاجتماعية وسبل التحكّم بها، وكل ما يتوجه إلى عقل الإنسان ويستثير إرادته، ذلك أن الإنسان النموذجي في التصوّر الاستبدادي هو من لا عقل له ولا إرادة. ميّز الكواكبي، بهذا المعنى، بين «علوم » زائفة ظاهرها معرفة جوهرها جهل، وعلوم «الحياة المدنية » التي ترتقي بالأمم والشعوب، مثل الفلسفة والعلوم السياسية والعلوم الطبيعية، وغيرها مما يؤثر في الواقع ويسهم في تغييره. و لأ ن المستبد يخاف من رعيته أكثر مما تخافه رعيته، فهوينسب إلى ذاته، مدعوماً بحاشية منافقة، جميع الفضائل الممكنة معترفاً، ضمناً، بأنه يفتقر إلى الفضائل التي يتمتع بها الحاكم الشرعي. يقول الكواكبي: «التمجّد خاص بالإدارات الاستبدادية »، وذلك لأن الحكومات الشرعية، التي يختارها الشعب ويراقبها، لا تحتاج إلى الثناء الكاذب والألقاب المصطنعة. وهي لا تسبغ لقباً على أحد إلاّ لقاء فعل صالح

قام به: «وهذا لقب اللوردية عند الإنجليز....، لا يناله عندهم إلا من يخدم أمته خدمة عظيمة ويكون من حيث أخلاقه وثروته أهلاً لأن يخدمها خدمات عظيمة... ». أخذ الكواكبي بمبدأ المقارنة المشخصة، محاذراً التعصّب والوقوع في الأحكام الجاهزة، على خلاف عقول سلطوية لا ترى في الغرب إلاّ كفراً وإلحاداً و «مادية » آثمة. تطلّع الكواكبي إلى أوروبا «فعلية » تعرف فضائل لا تعرفها حكومات الشرق المستبدة: «فهذه بلجيكا أبطلت التكاليف الأميرية، وهذه سويسرا يصادفها كثيراً أن لا يوجد في سجونها محبوس واحد، وهذه أميركا أثرت... .» وهو يتأمّل هذه «الفضائل الغربية »، مذكّراً بجدّ الشعوب في محاربة الاستبداد. وبالسعادة التي تعيشها الشعوب التي هزمت الاستبداد، أوصلت المقارنة بين الحال الشرقي والحال الغربي الشيخ الكواكبي إلى الإيمان بالحركة والتطوّر: «الترقي هو الحركة الحيوية، ويقابله الهبوط وهو الحركة إلى الموت أو الانحلال »، أي أن الحرية مرآة للحياة، بينما الاستبداد وجه من وجوه الموت. ت مس الملاحظة الأكثر عمقاً، في كتاب «طبائع الاستبداد ،» أثر الاستبداد الطويل على المستبَدّ بهم، التي تجعل من الاستبداد طبيعة اجتماعية، أو تكاد: «وقد يبلغ فعل الاستبداد بالأمة أن يحوّل ميلها الطبيعي من طلب الترقي إلى طلب التسفّل، بحيث لو دُفعت إلى الرفعة لأبت وتألمت كما يتألم الأجهر من النور، وإذا ألزمت بالحرية تشقى، وربما تفنى كالبهائم الأهلية إذا أطلق سراحها. وعندئذ يصير الاستبداد كالعلق يصيب له المقام على امتصاص دم الأمة، فلا ينفك عنها حتى تموت ويموت هو بموتها ». وعلى هذا فإن الاستبداد لا يعني نفي الحرية، أو إلغاء شروط الديمقراطية، إنما يعني الموات وإلغاء العقول وتبليد الأرواح، لأنه لا حياة إلا بالتنافس والصراع والتناقض، وبتلك الظاهرة التي تدعى ب «الفضاء السياسي »، الذي هو مقدمة أولى للحداثة الاجتماعية، التي لا تتحقق إلاّ في مجتمع يمارس حقوقه السياسية في شروط ديمقراطية. جمع الكواكبي في كتابه بين نبرة تحريضية تربوية وتحليل نظري لا ينقصه العمق والبصيرة النافذة. قارن بين المستبِد والمستَبَد بهم، وعرّف، بأشكال مختلفة، صفات الطرفين، فالمستبِد «جبّار » طاغية، حاكم بأمره، حاكم مطلق » .... إن لم يكن «خفاشاً يصطاد هوام العوام في ظلام الجهل، أو ابن آوى يتلقف دواجن الحواضر في غشاء الليل ».. إنه الواحد الذي يضع في داخله كل شيء، ولا يترك لخارجه الاجتماعي شيئاً، وهو الحر الوحيد في مجتمع منعت عنه الحرية، والفاسد الذي يبذّر خيرات الأمة على مظاهر خارجية قوامها البطر السفيه وعبادة الكم والأشياء. أما المحكومون فهم، «كالغنم دراً وطاعة، وكالكلاب تذلّلاً وتملّقاً... ،» و «أسرى ستصغرون، بؤساء، مستنبتون... » . وكذلك حال مستشار المستبِد، فهو «مصحف في خمارة، أو سبحة في يد زنديق ». وبداهة فإن بديل الحكومة المستبدة حكومة نقيضة لها : «عادلة، مسؤولة، مقيّدة، دستورية، تدع الإنسان في ظل العدالة والحرية... ،» أو «حكومة منتظمة »، تنظّم شؤون التربية والتعليم والعمل والصحة وتحمي المنتديات و «تسهّل الاجتماعات وتمهّد المسارح... » مارس الكواكبي، قبل غيره، وظيفة المثقف الحديث، الذي يتعيّن بموقفه النقدي من السلطة السياسية، ومارسها في شروط شرقية قاسية تعدّ النقد خطيئة لا تُغتفر. طالب المتمرّدُ الحلبي من الإنسان الحق أن

يقول: «أنا إنسان الجد والاستقبال، لا إنسان الماضي والحكايات .» ما زال القول ينتظر زمناً عربياً ينقله من مجال الرغبة إلى مجال التحقق

عبد الرحمن الكواكبي: الاستبداد يشوه الفطرة الإنسانية
 
26-Feb-2009
 
العدد 65