العدد 64 - الملف
 

نهاد الجريري

الأصل في النزل أو الفندق، مهما صغر أو كبر، أن يكون محل إقامة مؤقت. لكنه بالنسبة للستيني سعيد صوالحة كان مسقط رأس وبيت

ومدرسة، بل أكثر من ذلك، تعدى تدوينه سجلات أسماء النزلاء إلى تدوين سيرة مدينة بأكملها. أمضى صوالحة الصغير طفولته في نزل

اسمه فندق بالاس، كان يحتل الطوابق الثلاثة الأخيرة من عمارة منكو المؤلفة من ستة طوابق في شارع الملك فيصل. أسرة صوالحة

عاشت في الطابق الأعلى الذي يطل على مقهى السنترال والبنك العربي وسوق الصاغة وسوق منكو، بكل ما فيه من محال الألبسة النسائية.

وعلى مدى البصر كان سعيد الصغير يرى الجامع الحسيني ومقهى الجامعة العربية ومقهى كوكب الشرق.

كان هذا في مطلع الخمسينيات من القرن الماضي. وكان فندق بالاس وقتها يمثل «صرعة » في عالم الفنادق والعمارة، بسبب وجود مصعد كهربائي فيه وتدفئة مركزية. لم يكن صوالحة الأب غريبا عن صناعة الفنادق، فقد أسس مطلع الثلاثينيات مع أخيه الأصغر عودة «لوكندة فلسطين » كانت تتألف من 10 غرف بالإضافة إلى 30 سريرا كانت توضع على السطح في الصيف. «كانت المنامة بقرشين مع كاسة شاي الصبح وشبشب »، يروي صوالحة. وكان في كل غرفة «كندسة » وهي واجهة من الزجاج تسمح بدخول الضوء وأشعة الشمس. يروي سعيد صوالحة عن لوكندة فلسطين أنها كانت تلقب ب «سفارة الكرك » لكثرة ما كان يقيم فيها ويزورها شيوخ الجنوب والكرك تحديدا أمثال: دليوان ورفيفان المجالي. يقول إن جده كان يرتدي لباسا عربيا؛ حطة وعقال وعباءة، فكان يبث شعورا بالارتياح لدى رواده ومعظمهم من بدو شرق الأردن. كان ذلك مع بدايات تشكيل الإمارة، فكثرة مصالحهم في العاصمة حتمت أن تستمر إقامتهم فيها أياما. أكثر ما يذكره صوالحة ويثير إعجابه عن لوكندة فلسطين قاصة أو خزنة مخصصة للأسلحة، فلم يكن شيوخ العشائر يتوانون في أن يعهدوا بسلاحهم إلى إدارة الفندق من دون جدل أو خجل «احتراما لبعضهم بعضا .» كان الفندق يأتي بالطعام لزواره من مطعم السرور أو السلام القريبين. «كان معظم الأكل مشاوي، ولكنها أطيب من مشاوي هذه الأيام ،» يقول صوالحة. وعادة ما كان شيوخ العشائر يولمون لنزلاء الفندق بمجرد أن يمضوا ليلتهم الأولى؛ فيطلبون الدجاج بالبسيسة، «وهي عصيدة من السمن البلقاوي وطحين القمح، تخبز في الطابون ». ويلحظ صوالحة أن الخضروات جاءت «زحفا » في ما بعد بتأثير المطبخ الشامي والفلسطيني. في تلك الفترة، لم تكن النساء يدخلن الفندق، وإن دخلنه فلم يكن يُسمح لهن بالخروج منه إلا باتجاه مدنهن وبلداتهن. كما لم يكن مسموحا للفندق بأن يقدم الكحول، لكن هذا لم يمنع البعض من شراء المشروبات الروحية من «دكان لرجل من المشربش كان حاصلا على ترخيص ببيع الكحول في شارع الملك فيصل .» وهنا يتذكر صوالحة كيف أن شرطيا برتبة شاويش «اسمه شاهر أو أبو شاهر » كان يحكم قبضته على وسط المدينة، ويضبط النظام فيها؛ «فلا يجرؤ أحد أن يبيع من دون ترخيص .» أما عن فندق بالاس، الذي جاء تأسيسه متأخرا عن لوكندة فلسطين، فيروي صوالحة في مذكراته الخاصة غير المنشورة بعنوان «بين زمنين »، أنه عادة ما كان يرى 5 وزراء وما لا يقل عن 10 مبعدين في المرة الواحدة من بين نزلاء الفندق. يذكر منهم مهاجرا روسيا كان عارضا للثورة الروسية «يدخن سيجار القطتين السوداء والبيضاء ». ويذكر أيضا حمدي باشا الصادق «وهو من الفلول الملكية التي غادرت مصر بعد الثورة » بالإضافة إلى قوميين سوريين كانوا محكومين بالإعدام في بلادهم. ويذكر أن الشيخ أحمد الجعبري والشيخ عبد الحميد السائح كانا من الوجوه المعروفة في صالون الفندق إلى جانب المرحوم صالح المجالي. الصالون لم يكن يخلو من السيدات في تلك الفترة التي تعود إلى حقبة الخمسينيات. فكانت هناك سيدة إيرانية الأصل اسمها أم توفيق، «كانت مثقفة إلى أبعد الحدود ». وكذلك سيدة عراقية «بدينة أخت رجال » تدعى مدام مدفعي. وسيدة لبنانية «رقيقة » تدعى ألفيرا «أطاحت بعقول نزلاء الصالون ما جعلهم يتزاحمون للجلوس في الصالون للتمتع بالنظر إليها .» أما عن سهرات الفندق، فيقول صوالحة إن سهرة الخميس كانت تبدأ بفيلم مصري «نشاهده ع الراديو ». فكان في إذاعة عمان مذيع اسمه محمود الشاهد يقدم للفيلم ويصف أحداثه وينهيه في حوالي الحادية عشرة ليلا، موعد بدء سهرة أخرى من برنامج أضواء المدينة الذي كانت تقدمه إذاعة القاهرة، وفي إطاره كانت أم كلثوم تقدم حفلاتها في الأسبوع الأول من كل شهر. وقد نزل بالفندق فنانون عرب مثل: فريد الأطرش وتحية كاريوكا ومحمد طه، ووديع الصافي، وحتى نيللي، التي لم يكن عمرها وقتئذ يتجاوز التسعة أعوام. «حضرت نيللي وشقيقاتها لحضور أول عرض لفيلم لهن في عمان هو فيلم عصافير الجنة الذي عرض في سينما الأردن، كلما كن يعدن من السينما كان المئات يتزاحمون وراءهن »، يروي صوالحة. ويذكر أيضا أن فرقة أميركية نزلت في الفندق قدمت عرضا للتزلج على الجليد في المدرج الروماني في أوائل الستينيات. كما يتحدث عن لاعبي فريق الزمالك الذين حضروا لملاقاة المنتخب الأردني، «كان حارس المرمى وقتها عبد الله أبو نوار » الذي كان نجما شهيرا في عالم كرة القدم. وما زال صوالحة يذكر إلى اليوم مشهدا للملك طلال في شارع فيصل. «كان يركب حصانا أبيض ويقف عند البنك العربي .» صوالحة لا يذكر المناسبة بالضبط، ويذكر صوالحة أنه في مناسبة تعريب الجيش العام 1956 ، اصطف حرس مهيب، وأن الملك الحسين استعرض الحرس، وقال في رسالة للشعب «إن الضباط الإنجليز قد رحلوا .» إلى جانب هذين الفندقين، عرفت عمان القديمة فندق غازي، وهو لسليم صوالحة، وفندق السكر، وفكتوريا، والكمال. إلا أن أقدم فنادق عمان هو فيلادلفيا. وبحسب ما جاء في مقالة نشرتها صحيفة «الرياض » السعودية في شباط/فبراير 2007 ، أقيم هذا الفندق العام 1925 . وهو لم يكن الفندق الأول وحسب، وإنما كان أول فندق درجة أولى، وأول مبنى يستخدم في إنشائه الإسمنت المسلح، وفيه أقيمت أول مسابقة لملكات جمال الأردن، وكانت فيه أول بركة سباحة في عمان، وأول ملعب للتنس. تعود ملكية فندق فيلادلفيا لآل نزال. وقد توافق أنطون نزال على شراء سبعة دونمات قبالة المدرج الروماني من محمد العسلي بقيمة 800 ليرة ذهبية. ضم الفندق 65 غرفة. وبلغ سعر «المنامة » دينارا وعشرة قروش «مع العشاء. » أما وجبة الغداء فكانت ب 55 قرشا »، حسبما يروي منير إلياس يوسف زبانة، الذي بدأ عمله محاسبا في الفندق نهاية الخمسينيات، وانتهى مديرا له نهاية السبعينيات. يذكر أن أول راتب له كان 33 دينارا، وآخر راتب 150 دينارا «عندما كان الوزير في تلك الأيام يأخذ 125 ديناراً . يروي زبانة في حديث لصحيفة الرأي في 2008/10/13 ، أن من أبرز زوار الفندق كان الملك عبد الله الأول وبعده الملك طلال. من الزوار أيضا «داود سمعان الذي كان وزيرا للعدل، بالإضافة إلى شخصيات عربية مثل علي غندور الذي هرب من حكم عليه بالإعدام في لبنان، ويوسف المعلم، والدكتور جورج صليبي .» وكانت تقام في الفندق سهرات ليلية يحييها فنانون مثل: سميرة توفيق، أنطون عبود. كما كانت تقام حفلات زواج للميسورين. ويلحظ زبانة أن كثيرا من العائلات الأردنية كانت تحضر الحفلات، لكنه كان محظورا على السيدات الحضور دون مرافقة أزواجهن أو أحد أفراد العائلة. ظل فندق فيلادلفيا قائما حتى العام 1988 ، عندما قررت أمانة عمان هدم البناء بالرغم من مناشدات النقابات المهنية والمعنية بحفظ التاريخ والتراث، فانتقل الفندق اسما إلى موقع جديد قريب من الدوار الثالث، وفي أواخر التسعينيات غير اسمه إلى فندق راديسون ساس

الفنادق القديمة: بدو بأسلحتهم، مسابقات جمال وحفلات غنائية
 
19-Feb-2009
 
العدد 64