العدد 62 - الملف
 

حسين أبو رمّان

عقد من الحراك السياسي مرّ منذ العام 1999، لم يتوقف خلاله الملك عبدالله الثاني عن تأكيد انحيازه إلى جانب إصلاح وتطوير الحياة السياسية. لكن جردة سريعة لملف التنمية السياسية، تكشف عن انقسام النخب السياسية في البلاد على نفسها بهذا الشأن، والنتيجة أن الأردن ما زال يدور في حلقة مفرغة، مع كثير من مظاهر التراجع، وقليل من مظاهر التقدم.

محمد القطاطشة، أستاذ العلوم السياسية في جامعة مؤتة، يرى أن من بين الاستعصاءات التي تعرقل عملية التغيير هو أننا ما زلنا نستخدم قيماً ثلاثاً في التعامل مع الدولة، هي: «القيم القبلية، والقيم الدينية، والقيم المدنية»، وأننا نعيش حالة من الضياع والإرباك بين هذه القيم، بينما «الأساس هو الالتفاف حول الدولة الوطنية بمضمونها المدني، أي دولة المواطنة». لهذا لا يمكن أن نتحدث عن إصلاح سياسي ونتمسك بالقيم العشائرية، إذ يجب أن يكون الناس سواسية أمام القانون.

عريب الرنتاوي مدير مركز القدس للدراسات السياسية، يرى من جهته أن مشروع الإصلاح السياسي يراوح مكانه منذ أواسط التسعينيات، معتبراً أن هذا التقييم ليس جزافياً، وهو يستدل على ذلك بالنتائج الكمية التي يمكن حسابها بالأرقام من خلال استطلاعات رأي تقيس مستوى الديمقراطية وحرية الصحافة، والتي تصنّف الحالة الأردنية في منطقة الوسط، تنتكس أحياناً، وتشهد انفراجاً أحياناً أخرى، لكنها لا تشكل اختراقاً.

ويستخلص الرنتاوي أن «الإصلاح غير مطروح على أجندة العمل الرسمي أو الأهلي، إذ لا شواهد على وجود إرادة للقيام بتغيير جذري» في المدى المنظور.

لكن النائب مفلح الرحيمي، أحد أبرز أقطاب كتلة التيار الوطني، يجري تقييماً مختلفاً، فهو يذكّر بأن «جلالة الملك عبدالله الثاني تحدث عن مرحلتين من الإصلاح؛ الاقتصادي والسياسي»، معرباً عن رضاه عن الإنجاز الذي حققه الأردن خلال السنوات العشر الماضية في المجال الاقتصادي، والانتهاء من برامج التصحيح الاقتصادية.

قانون الانتخاب لمجلس النواب وقانون البلديات هما أكبر ضحايا حالة الركود السياسي. ففي العام 2001، شكّل تغيير قانون الانتخاب في عهد حكومة علي أبو الراغب ذريعة لتعطيل مجلس النواب لمدة عام ونصف العام تقريباً. أما القانون الجديد «المؤقت»، والذي فتح الباب أمام إصدار ما يزيد على 200 قانون مؤقت آخر في غياب السلطة التشريعية، فقد عمّق المضامين السلبية في النظام الانتخابي، بإقدامه على «تجزئة» محافظات البلقاء، الزرقاء، مادبا، عجلون، الكرك، والطفيلة، جاعلاً منها عدة دوائر انتخابية، بعد أن كانت تشكل كل منها دائرة انتخابية واحدة، حيث أخضع محافظتي إربد والعاصمة إلى مزيد من التجزئة من حيث عدد الدوائر الانتخابية. وفي هذه الحالة، تصبح الدوائر على مقاس عشائر أو عائلات بعينها، ويتقلص المضمون السياسي للعملية الانتخابية حد التلاشي.

أما قانون البلديات الجديد، فقد أعاد للمواطنين حقهم في انتخاب رؤساء وأعضاء مجالسهم البلدية، والذي كان قد صودر في انتخابات العام 2003. وتحت غطاء إعادة الحق إلى أصحابه، تمّ، من خلال الاستعانة بالديوان الخاص لتفسير القوانين، الانتقال بنظام الانتخاب، في خطوة مشوبة بعدم النزاهة، من «نظام الكتلة» الذي يسمح بالتصويت لعدد من المرشحين يساوي عدد مقاعد المجلس، إلى «نظام الصوت الواحد» سيىء السمعة والصيت.

أما المظاهر الإيجابية التي جاءت بها التعديلات، فقد اقتصرت على تحسين الجوانب الإجرائية في قانون الانتخاب، وإقرار كوتا نسائية لمجلس النواب من ستة مقاعد، وللمجالس البلدية بنسبة لا تقل عن 20 في المئة من مقاعدها. لكننا، مقابل ذلك، شهدنا، في عهد الحكومة السابقة، أسوأ انتخابات نيابية وبلدية منذ الانتخابات التكميلية في العام 1984.

وبما أن قانون الانتخاب هو حجر الأساس في العملية الديمقراطية، فإن ما وقع من تعديل سلبي على القانون يكون قد أغلق بوابة التغيير المنشود عبر هذه الطريق. وإذا بحثنا عن حل بديل عن طريق النهوض بالحياة الحزبية، فإننا سنجد أن الرهان الحكومي والنيابي على رفع عدد الأعضاء المؤسسين مدخلاً لإعادة هيكلة الحياة الحزبية باتجاه بلورة ثلاثة تيارات حزبية فقط، كان مجرد وهم. وكل ما تحقق أنه تقلص عدد الأحزاب إلى 14 حزباً. وبرغم أن إصدار نظام تمويل الأحزاب يعدّ خطوة إلى الأمام، فإن تجاهل دور التمويل في تغطية نفقات الحملات الانتخابية للأحزاب، يفقد هذا النظام أهميته.

سمير الحباشنة، وزير الداخلية الأسبق، يستذكر أن الحكومة السابقة اجتهدت لتقوية الأحزاب برفع عدد المؤسسين، لافتاً إلى أنه لم يكن مع هذا التوجه «لأن المسألة لا تتعلق بالعدد، بل بتأثير الحزبيين على الناس من خلال برامجهم»، بحسب رأيه. ويضيف أنه لو نجحت الأحزاب المتماثلة في توجهاتها بالاندماج ضمن عدة تيارات، لأسهم ذلك في نمو الأحزاب السياسية، محملاً مسؤولية ضعف الحالة الحزبية للقانون والناس والقادة الحزبيين.

القطاطشة يرى أن المراهنة على الإرادة السياسية للسير في طريق الإصلاح السياسي لم تعد كافية، إذ لا بد من توافر الروافع التشريعية اللازمة، مشدداً على أن الأرضية الدستورية التي يمثلها دستور 1952، تنطوي على نواقص، تعد معيقاً أساسياً لعملية الإصلاح.

«إن تجاوز النواقص الدستورية المعطلة للإصلاح، يتطلب تعديل الدستور باتجاه تكريس الأحزاب السياسية كأساس للنهوض بالحياة السياسية، وإقرار نظام انتخابي جديد يجمع بين التمثيل النسبي والتمثيل الفردي»، يقول القطاطشة.

ويشدد الرنتاوي على أن القوى المضادة للإصلاح بأبعاده السياسية والاقتصادية والاجتماعية، كبيرة وممأسسة، مشيراً إلى نشوء تيار عريض في الدولة والمجتمع يصر على الاستئثار بالامتيازات. لهذا، لا عجب، بحسب رأيه، إن رأينا أن هنالك من يقاوم الإصلاح من منظور إقليمي، أو من ينظر إلى الإصلاح السياسي من منظور الخصخصة الاقتصادية.

من بين التشريعات المهمة لتنمية الحياة السياسية، قوانين المطبوعات والاجتماعات العامة والجمعيات، وبدل أن يكون التوجه الرسمي هو الارتقاء بهذه القوانين بما يواكب تطور البلاد، وحاجات إنسانه، نجد أن هناك إصراراً على تقييد الحريات التي تكفلها هذه التشريعات.

فقد تمتع الأردن، منذ العام 1993، بقانون مطبوعات ليبرالي، لكن حكومة عبد السلام المجالي استبدلته بقانون مؤقت وغير دستوري، فقررت محكمة العدل العليا إيقاف العمل به. وحينما أعد قانون بديل كان على الدرجة نفسها من السوء. وشهد هذا القانون، بأوامر مباشرة من الملك عبدالله الثاني، سلسلة من التعديلات التي قلصت من ثغراته، كان من بينها منع اعتقال الصحفي بسبب رأيه، ومع ذلك، فإن الصحفي ما زال يتعرض للاعتقال، كما يتعرض إلى العنف أثناء تأدية عمله، ما حدا بالملك إلى أن يعلن بأن اعتقال الصحفي وإيذاءه ممنوع، مشدداً على أن ذلك «خط أحمر».

أما قانونا الاجتماعات العامة والجمعيات، فقد كان هناك قانونان قديمان يعود الأول إلى العام 1953، وهو قانون «جيد»، ويعود الثاني إلى العام 1966، وهو قانون يفي بالغرض وإن كان بحاجة إلى تطوير، لكن القانونين الجديدين اللذين حلاّ محل القديمين، كانا متخلفين حقاً، إلى درجة استفزاز حفيظة بعض مؤسسات في المجتمعات المدنية الدولية والتي باتت تطالب حكوماتها بربط مساعداتها للأردن بوجود تشريعات ديمقراطية للحريات. وفيما التزمت الحكومة بالعمل على تعديل قانون الجمعيات ليقترب من مطالبات المجتمع المدني في الأردن، فإن الأنشطة التضامنية مع غزة جعلت قانون الاجتماعات العامة «كادوك»، (غير صالح) ولو لأسابيع قليلة، وبدل أن يستخلص وزير الداخلية عيد الفايز الحاجة إلى تطوير القانون، شدّد على العودة إلى تفعيله.

الحباشنة ينظر بعين الرضا إلى ما حققته الحرية الصحفية في العقد الأخير. كما يعتقد أنه وقع تعزيز للتجربة البرلمانية، وللدور النيابي في التشريع والرقابة، لكن يرى، في الوقت نفسه، أن مسار الإصلاح يخضع لمؤثرات ذاتية وأخرى موضوعية خارج نطاق السيطرة على المستوى الإقليمي، نافياً القدرة على تحقيق خطوات نوعية في هذا الاتجاه قبل استقرار الإقليم وقيام الدولة الفلسطينية. فالأردن، بحسب رأيه، بحاجة إلى الاستقرار، «لأنه يعيش في حالة حرب سياسية على عدة جبهات داخلية وخارجية»، مستخلصاً أنه لا يمكن للدولة وضع قانون وهي مرتاحة من منطلق احتياجات وطنية بحتة.

هناك قصة تتكرر كلما طرح موضوع الإصلاح على بساط البحث، أو جرت مطالبة بتعديل أو استبدال أحد قوانين البناء الديمقراطي، وهي إثارة ما أسماه الرنتاوي المخاوف أو الذرائع، منها أن الحركة الإسلامية، ستكون هي المستفيدة من أي إصلاح كبير. لافتاً الانتباه إلى أن هذه الذرائعية لم تقد الدولة إلى دعم قوى أكثر قرباً من السياسات الحكومية. ويصل إلى نتيجة مفادها أن غياب الإرادة السياسية للشروع في أجندة الإصلاح الوطني، يعززه غياب الضغط الداخلي، إذ إن قوى الإصلاح ضعيفة.

سبب آخر يثار في وجه كل طرح إصلاحي، هي ربط تحقيق الإصلاح بحل القضية الفلسطينية بدعوى الخشية على مصير قضية اللاجئين ومصير الأردن، ويتكرر هذا على لسان مسؤولين كبار. وما زال القرار السياسي لتجاوز هذه المشكلة غائباً، برغم أن من غير الصعب إدراك أن الإصلاح السياسي يحصن جبهة الأردن الداخلية، ويعزز منعته واستقراره، ويعظم قدرته وإسهامه في الحفاظ على حقوق اللاجئين في العودة والتعويض.

وإضافة إلى الحباشنة الذي يربط بين الإصلاح وحل القضية الفلسطينية، يرى النائب الرحيمي أن الأردن محاط بمناطق ملتهبة، لهذا يرى أن الإصلاح يجب أن يكون تدريجياً ويحافظ على سيادة الدولة الأردنية، لافتاً إلى أن الأردن سائر في الطريق السليمة، وأن العملية الحزبية واعدة، وستأخذ مجراها في المأسسة.

الإصلاح يراوح في المكان بسبب هذا المشهد من الانقسام بين النخب السياسية، والانقسام له حلول عندما تتوافر الإرادة السياسية من خلال البحث عن التوافق دون إثارة مخاوف أي من مكونات المجتمع الأردني. لكن الإصلاح يحتاج إلى إصلاحيين الذين يتعين عليهم أن يضاعفوا جهودهم لوضع ملف الإصلاح في مقدمة اهتمامات الدولة الأردنية.

تيار الإصلاح ضعيف، ومناهضوه متنفذون دولة المواطنة وسيادة القانون مفتاح الإصلاح السياسي
 
05-Feb-2009
 
العدد 62