العدد 62 - بورتريه
 

سعد حتر

بدأ حياته العملية في سلك الاستخبارات بعد أن حاول قرع أبواب الصحافة. بعد ربع قرن، خاض غمار السياسة ورسم الاستراتيجيات، منطلقاً من نفوذ مركزه على رأس جهاز تمدّد خلال العقد الماضي ليتغلغل في سائر مفاصل الدولة.

كانت «السلطة الرابعة» والعمل الدبلوماسي شغفه الأول عقب عودته من لندن منتصف ثمانينيات القرن الماضي. إذ سعى آنذاك للانضمام إلى «جوردن تايمز» بإدارة جورج حواتمة، لكنّه غيّر مساره صوب الأمن.

يستذكر محمد الذهبي (52 عاماً)، في مجالسه الخاصة، كيف تغيّر طموحه، من العمل بالسياسة وسلك الدبلوماسية، حين عرض عليه مدير المخابرات الأسبق طارق علاء الدين، العمل في «الدائرة» قبل عقدين.

في المحصلة، انخرط الذهبي في المخابرات العامة، ضابطاً برتبة متواضعة سيترقى قفزاً إلى رأس الهرم. ينقل عنه مقربون منه غبطته بعدم دخوله حقل الإعلام، لأن عالم الاستخبارات فتح أمامه آفاقاً واسعة وأوصله إلى القمّة. لكن مسيرته لم تكن سهلة. إذ كان انتقل مطلع العقد الحالي، والتحق بكادر رئاسة الحكومة بعد أن رُفّع استثنائياً.

كانت إقالته، خطوةً التفافية، حتى يعود إلى «الدائرة» برتبة أعلى. ففي العام 2004 أعاد الملك تأهيله، وعينه نائباً لمدير المخابرات آنذاك اللواء سميح عصفورة، فيما بدا وكأنه تهيئة لتسليمه هذا المنصب الحسّاس. وهو ما جرى في كانون الأول/ديسمبر 2005، بعد شهر على تفجيرات ثلاثية كانت الأعنف في تاريخ الأردن المعاصر. فكان بسْط الأمن ومكافحة الإرهاب على رأس عناوين رسالة تكليفه الملكية.

لم تمضِ أسابيع، حتّى شكّل الفريق الذهبي - بأمر من الملك- ما تُعرف بوحدة «فرسان الحق»، وهي قوّة نخبوية ضاربة ساهمت في اعتقال عناصر متهمة بالارتباط بخلايا القاعدة، من بينهم العراقي زياد الكربولي، الذي اختُطف عبر الحدود ليمثل أمام محكمة أمن الدولة. في عهده وفّرت الاستخبارات، منتصف 2006، معطيات مكّنت الجيش الأميركي في العراق من اصطياد زعيم تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين، الأردني، أبو مصعب الزرقاوي، وتصفيته.

الفريق محمد الذهبي، الذي غادر منصبه قبل شهر، وجدَ في «الدائرة»، على حدّ قوله، تركةً ثقيلة تركها سلفاه؛ الفريق سميح البطيخي، والمشير سعد خير. إذ كان الأخيران من أصحاب مدرسة تسييس الأمن بدل أمن السياسة. على أن الذهبي أعلن عزمه في البداية على هجر تلك المدرسة، وصدرت عنه مقولة: «نحن مخابرات دولة، وليس دولة مخابرات».

لكن «المحفّز» الاستخباري ظل حاضراً في ثنايا العمل السياسي، في بلد هاجسه الأمن، ما فتئ يتعرض لهزات ارتدادية في محيط متفجر من بغداد إلى بيروت فرام الله. وهكذا تداخل المساران، وطغى دور «الدائرة» في مختلف توجهات الدولة، بخاصة تجميع الحكومات وتفكيكها، وتوجيه بعض رجال التشريع، وتطويع أقلام الإعلام. تدخُّلُ جهازه في الانتخابات التشريعية والبلدية أواخر 2007 تركَ نقطة سوداء في تاريخ الدولة، لجهة حجم التجاوزات التي رصدها الإعلام ومراصد الديمقراطية وحقوق الإنسان.

يبدو أن الفريق الذهبي لم يلتقط الدرس جيداً، مع أنه كان الأقرب بين زملائه إلى ملفات سلفيه، بوصفه مديراً لمكتب كلٍّ منهما وحافظ أسراره. كان يراقب أداءهما ويطّلع على تفاصيل خفيّة في إدارة الدولة، ليختزن لاحقاً حنكة في إدارة الملفات ستلازمه على مدى سنواته الثلاث في شارع الشعب.

رغم جهره بالابتعاد عن السياسة، مشى الفريق الذهبي في مسارين متوازيين؛ فسعى إلى تعزيز الأمن بأدوات مستحدثة، وأمسك بمفاتيح السياسة ليؤدي دوراً بارزاً في تسيير دفّة الحكومات. مرَ عليه رئيسا حكومة؛ معروف البخيت - الدبلوماسي المتهم بالبيروقراطية والقادم من المؤسسة الأمنية-العسكرية، وشقيقه الأكبر نادر الذهبي. الأول اصطدم بمطبّات، لم يكن بعيداً عن صنعها، وواجه إحباطات مزدوجة حرّكها نواب أو أقلام تدور في فلك شارع الشعب، أو رئيس الديوان الملكي السابق باسم عوض الله. أما الثاني فسار، حتى خروج شقيقه الأصغر من منصبه، عبر طريق مضاءة يظلّلها رضا استخباراتي غير معهود، مع أنه واجه مشاكسة مَن كان على رأس الديوان الملكي.

في الأشهر الأولى من ولاية نادر الذهبي، ظهر تناغم معلَن بين الشقيقين ورئيس الديوان الملكي السابق، وصل حدود التلاقي أسبوعياً، بخلاف حالات التنافر السابقة التي كانت تعرقل تعشيق مسنّنات الدولة. على أن الانسجام تحوّل إلى معركة كسر عظم حمل لواءها مدير المخابرات العامة السابق، فأطاح الملك بعوض الله في عيد الفطر، مطلع تشرين الثاني/نوفمبر الماضي. رشح لاحقاً أن رأس الدولة حاول ثني الرجلين عن الإمعان في المنازلة. وحين لمس إصراراً على المضيّ في العداء حتى النهاية، تخلّى عن عوض الله، وفي ذهنه -كما ظهر لاحقاً- سيناريو مشابه للذهبي. فخرج الأخير من منصبه في عطلة رأس السنة الهجرية أواخر العام الماضي، والشارع يموج بتظاهرات صاخبة نصرةً لحماس وأهل غزّة ضد العدوان الإسرائيلي الذي دام ثلاثة أسابيع.

مناصرو الفريق الذهبي يؤكدون أنه خاض معركة، يعرف أنها خاسرة، ضد «محاولات تصفية القضية الفلسطينية على حساب الأردن». هكذا دخل المعركة على طريقته في «حماية الوطن»، وإسناداً لتجربة شقيقه - سادس رئيس حكومة في عهد الملك الرابع - دون النظر إلى العواقب في الوظيفة والموارد. تلك الفئة ترى أن الفريق الذهبي تنطّح لفرملة ما يصفونها بمخططات «الليبراليين الجدد»، وفي مقدمتهم عوض الله. عرف لعبة الصحافة من البداية فتواصل مع الكُتّاب، في الترويج لقضايا شعبوية، مثل الانفتاح السياسي والتواصل مع الأحزاب والنقابات.

اليوم يُنقل عن الذهبي تفضيله، بأثر رجعي، لتيار ثالث بين خندقَين: ليبرالية تريد القفز صوب نماذج اقتصادية مثل سنغافورة ودبي، وقوى محافظة ترغب في الاحتفاظ بمكاسبها المتراكمة. الطريق الثالثة برأيه ستجنّب الأردن خضّات التحول المتسارع، أو خلخلة أساسات دولة نشأت منذ 90 عاماً على ميثاق غير مكتوب.

نجح في لعبة العلاقات العامة، لكنّها لم تبعد الأردن عن سهام نقد منظمات حقوق الإنسان الدولية ضد ما وصفته بـ«التعذيب» في السجون الأردنية، ومنها ذلك التابع لدائرته. فهو لم يتردّد في فتح أبواب الدائرة أمام وفود منظمة العفو الدولية، في خبطة علاقات عامة محسوبة.

بحكم طبيعة عمله السابق، يرفض الفريق الذهبي الحديث عن تجربته للصحافة، وهو الذي يربض فوق أسرار شتّى.

على أن ما يُنقل عنه في مجالسه الخاصة، يبدو «ثورياً»، بخلاف طبيعة رجل الاستخبارات المتكتمة. يقول مقربون منه إنه وقع ضحية نزعته نحو الانفراج السياسي والانفتاح على حماس. في المقابل، يؤكد سياسيون كانوا على صلة به، أن تلك الطروحات لم تتعدَّ دائرة التكتيك في المعركة ضد عوض الله. ويرون أيضاً أن تدخلّه في باحة القصر الخلفية، لجهة التعيينات والإقالات، عقب إبعاد عوض الله، سرّعت من خروجه.

الفريق الذهبي: حرفة الأمن وفضاءات السياسة
 
05-Feb-2009
 
العدد 62