العدد 60 - أردني
 

محمود الريماوي

أجمع سياسيون ومراسلون صحفيون كثر في الأردن والخارج، على أن التفاعل الأردني ضد العدوان على غزة كان ملحوظاً ومميزاً. لم يكن التفاعل مفاجئاً، فتطورات القضية الفلسطينية مثّلت على الدوام شأناً داخلياً محلياً، والعدوان الأخير جاء مفارقاً في وحشيته واستهدافه المتعمد والمتكرر للمدنيين والمرافق المدنية.

هناك عوامل أخرى، دفعت لرفع درجة التفاعل: فحركة حماس التي استُهدفت إسرائيلياً في غزة، تمثل تاريخياً امتداداً لجماعة الإخوان المسلمين في الأردن، والجماعة مع ذراعها الحزبي والبرلماني: جبهة العمل الإسلامي، تمثل واجهة المعارضة و"قوة الممانعة السياسية". وكان لجماعة الإخوان بصمات واضحة في تنظيم لمسيرات وحشد الملتقيات والاعتصامات "نُصرة لغزة"، رغم أن الهبة التضامنية للشارع في اتجاهها الغالب كانت عفوية. وقد سعت الأحزاب "العلمانية" لاستدراك غيابها مرتين. مرة بإشهار استقلالية نسبية لها عن الأخ الأكبر -الإسلامي- في تنظيم المسيرات ورفع الشعارات، ومرة ثانية بمحاولة اللحاق باندفاعة الشارع، وتمكّنت في الحالين من تحقيق حضور رمزي.

البرلمان بغرفته النيابية، شهد تفاعلاً يعكس تركيبة المجلس، من تحوله إلى منبر للخطابة، ومن إحراق للعلم الإسرائيلي، ومن وضع القضية على بند "ما يستجد من أعمال"، ومن طرح مطالب متناقضة، من قبيل قطع العلاقات مع دولة عدوان، وزيادة الدعم لـ"الأهل في غزة".

التواصل مع التطورات بلغ ذروة سياسية له في الحديث الملكي لقناة "الجزيرة" الذي تطرق فيه إلى "مؤامرة تحاك ضد الشعب الفلسطيني ومستقبل فلسطين، وما يخيف هو ما بعد العدوان الإسرائيلي". الحديث ضرب الرواية الإسرائيلية باستهداف فصيل مسلح بعينه وحماية المستوطنات، ووضع التطورات الجارية في سياق سياسي أشمل، وأشد خطورة يتعلق بإعادة هندسة المنطقة بالحديد والنار والأسلحة المحرمة الدولية، بهدف تصفية القضية الفلسطينية، وإيكال تركتها إلى الأردن ومصر.

شكّل الحديث الملكي نقطة التقاء رسمية وشعبية، وكانت سبقته تصريحات ملكية حازمة أخرى، وبنت عليه أطراف داخلية حزبية وبرلمانية مواقفها اللاحقة. على أنه يصعب القول إن الحكومة التقطت الرسالة الملكية، ما حدا بنائب مخضرم (ممدوح العبادي) إلى القول إنه لا يلحظ "وجود دور سياسي للأردن". في واقع الأمر إن دولاً أكبر من الأردن لم يُلحظ لها دور سياسي، سواء كانت في صف "الممانعة"، أو في معسكر الاعتدال.

الأردن شارك في اجتماعات وزراء الخارجية العرب، وقمّتي شرم الشيخ والكويت، وغاب عن اجتماع الدوحة الطارئ، متمسكاً بـ"الإجماع العربي". غير أن المستوى السياسي التنفيذي لم يطرح مبادرات سياسية تكسر الجمود. تم الإصغاء لسائر المقترحات التي أطلقتها المسيرات والقوى السياسية على مدار ثلاثة أسابيع، لكن دون الرد عليها، ما أبقى حلقة مفقودة في التواصل الرسمي والشعبي.

رئيس الوزراء نادر الذهبي، أفضى بتصريح مهم أمام مجلس النواب، ذكر فيه أن "خيارات الأردن إزاء ما يجري مفتوحة". وهو ما أثار توقعات بأن إجراءً ما قد يُتخذ، أو تطوراً ما سوف يقع. لكن شيئاً من ذلك لم يحدث. واقع الحال بعدئذ كما من قبل، ظل يشي ويوحي بأن الخيارات إن لم تكن مقيدة، فهي ضئيلة. ودليل ذلك أن أحداً من المسؤولين: رئيس الحكومة، أو وزير الخارجية، أو الناطق الرسمي، لم يأت على ذكر العلاقات الأردنية الإسرائيلية. يُفترض أن هذه العلاقات تأثرت سلباً، وهو ما تزكّيه تسريبات عديدة بأن الاتصالات الرسمية مع تل أبيب انقطعت عقب شن الحرب على غزة. غير أن ذلك على أهميته، لا يشكل بحد ذاته موقفاً أو إجراء.

كان رئيس وزراء سابق وصف استمرار العلاقات مع تل أبيب على طبيعتها وفي مختلف الظروف، بأنه يمثل مشكلة. كما أن تجميد العلاقات وطرد السفير الإسرائيلي وسحب السفير الأردني حسب المسؤول السابق، يمثل بدوره مشكلة أيضاً. هذه المقاربة تحمل قدراً من الشفافية، ويُفترض أن تتمتع بها الحكومة في التواصل مع الرأي العام، بحيث يتم وضع العلاقة مع تل أبيب في دائرة الاهتمام والفحص، وعلى الأقل كما هي العلاقة مع بقية دول العالم. بحيث يتكرس الاحتكام إلى مبدأ السيادة الوطنية والقرارات المستقلة في اتخاذ المواقف إزاء الدول، والنظر في مستوى العلاقات الدبلوماسية معها، ودون الحاجة لتجاوز المعاهدة مع تل أبيب مثلاً. علماً أن شن الحروب المدمرة والسعي لتصفية الفلسطينية مادياً وسياسياً، يشكل نقضاً صارخاً للمعاهدة بوصفها حلقة في سلسلة، ومحطة على طريق إحلال سلام شامل، وللاتفاقيات الإسرائيلية المبرمة مع الجانب الفلسطيني، بما يشي في النهاية بمؤامرة حسب التوصيف الملكي السديد.

بهذا، فإن التناغم السياسي الذي شهدته البلاد في الأسابيع الأربعة الماضية، لم يتبلور في نهاية المطاف إلى خواتيمه المنتظرة: في رؤى مشتركة تقود إلى إجراءات ما. وقد تردد أن اتصالات جرت بين عمّان والقاهرة بهدف التنسيق حول هذه المسألة، وانتهت إلى الاتفاق على السعي الحثيث والجاد إلى وقف العدوان، وهو ما تم ويُسجَّل للأردن كما لمصر، إذ أن وقف آلة القتل الاسرائيلية شكل بالفعل أولوية حاسمة، على أن الاتصالات انتهت للتوافق كما تردد، وكما تزكيه الوقائع اللاحقة، على إبقاء ملف العلاقات مع تل أبيب على حاله.

يُذكر أنه في محطات سابقة احتفظت العاصمتان باجتهاداتهما الخاصة. فقد شارك الأردن في المعركة القضائية في لاهاي ضد جدار الضم والتوسع: الجدار العازل في عمق الضفة الغربية، ولم تشارك مصر. وفيما لعبت القاهرة، وما زالت، دوراً في الحوار الفلسطيني الداخلي، فإن ظروف الأردن وتقديراته نأت به حتى الآن عن هذا الدور. علاوة على أن إبرام المعاهدتين المصرية ثم الأردنية (يفصل بينهما 14 عاماً) تم بقرار مستقل من العاصمتين.

ليس من مصلحة أحد تحميل البلاد فوق ما تحتمل، أو الإضرار بعلاقاتها الدولية (مع واشنطن على الخصوص)، أو التجاوب التلقائي مع مطالب فئوية و"شعبوية". فالمصلحة الوطنية العليا تقضي بخلاف ذلك، وضمن هذا المنظور، لا بعيداً عنه، فإن الإبقاء على الخيارات مفتوحة كما صرح رئيس الوزراء يشكل توجها صائباً، وهو توجه يدفع حُكماً للحركة لا الشلل، للمبادرة لا الجمود.. وذلك حتى لا يثور انطباع بأن الخيارات ما زالت مقفلة، وغير قابلة لأية مراجعة، في وقت يمنح فيه الطرف الاسرائيلي نفسه حرية حركة هائلة لا حدود لها، ولا يعبأ بأي مواثيق أو تعهدات.

الحرب الوحشية على غزة جعلت العالم كله يقف مبهور الأنفاس، فيما تقدمت بعض الدول لاتخاذ مواقف موضوعية منها، مثل تجميد العلاقات (أقدمت عليه دولة عربية هي موريتانيا)، ولعله ليس من المبالغة أن تلك الحرب شكلت زلزالاً سياسياً سوف تكون له توابعه، كما ورد في التحذيرات الملكية (ما يخيف هو ما بعد العدوان الإسرائيلي).

من المهم في ضوء ذلك أن يتوطد التلاقي الداخلي، وأن يقف الأردن خارج أي استقطابات إقليمية حادة، وأن يعزز التضامن العربي الفعال ويظل في القلب منه، على أن يحتفظ بحرية الحركة والمبادرة المحسوبة في مواجهة أي أخطار محتملة، وفي مقدمها تعاظم النزعة الإمبراطورية لدى الدولة العبرية، وسلوكها كل الطرق غير المشروعة لتتسيد على المنطقة وعلى حساب دولها وشعوبها، ما يقضي ببث رسائل سياسية واضحة مفادها أن لدى الأردن ما يقوله وما يفعله، كي تستقيم الأمور ويتمتع الجميع بالأمن والكرامة.

الملك حذّر من مؤامرة ينطوي عليها “العدوان وما بعده”: خيارات الأردن المفتوحة تقتضي إبداء دينامية أكبر
 
22-Jan-2009
 
العدد 60