العدد 60 - اقليمي
 

معن البياري

لم تحظ دعوة الرئيس اليمني علي عبد الله صالح إلى عقد مؤتمر قمة إسلامية من أجل غزة بأي تجاوب ظاهر معها، وذلك ليس فقط لاقترانها بطلب صاحبها إرسال مقاتلين لمشاركة الفلسطينيين في الدفاع عن أنفسهم، وليس لأنّها جاءت فيما كانت المؤشرات تذهب إلى توقف العدوان الإسرائيلي، بل لأنها تزامنت مع رزمة من القمم.

معلومٌ أن الدوحة ألحّت وبشدّة من أجل عقد واحدة منها، وكانت تشتهي أن تكون قمة كاملة، دعت إليها منذ اليوم الأول للعدوان في 27 كانون الثاني/ديسمبر الفائت، وأصرّت عليها رغم «ممانعات» غير قليلة، ونشطت من أجل عقدها حتى بعد أن تيقنت من عدم اكتمال النصاب المطلوب لتتسق مع ميثاق جامعة الدول العربية، الذي يقضي بموافقة 15 دولة على عقد مؤتمر قمّة تدعو إليه أيّ من الدول الأعضاء. وكان باعثاً للدهشة، أن القمة التي استضافتها الدوحة لاحقا، وحملت اسم «قمّة غزة الطارئة»، سبقها بيوم فقط مؤتمر قمة طارئ لقادة دول مجلس التعاون الخليجي، دعا إليه العاهل السعودي الملك عبد الله بن عبد العزيز قبل ساعات من عقده، واستضافته الرياض، واقتصرت نتائجه على التشديد على ضرورة بحث العدوان الإسرائيلي والتضامن مع غزة في القمة العربية الاقتصادية والتنموية في الكويت، المقرّر موعدها قبل شهور. بعد أربعة أيام من هذا التجمع العاجل، الذي وصفه وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل بأنه «أعاد اللُّحمة إلى الجسم الخليجي»، وهو ما لم يبدُ مؤكدا، بالنظر إلى إبقاء الدوحة ترتيباتها لاستضافة القمة التي دعت إليها، وكانت سلطنة عمان من بين حضورها.

بعد ساعات على فض شمل المجتمعين في العاصمة القطرية عصر يوم الجمعة الماضي 16 كانون الثاني/يناير الجاري، ولم يكن بينهم ممثلون للسعودية والأردن ومصر وفلسطين، ولا لدول أعلنت حكوماتها المشاركة ثم لم تشارك، اليمن والإمارات مثلاً، فقد فاجأ الرئيس حسني مبارك هذه الزوبعة بالإعلان عن استضافته في شرم الشيخ في اليوم التالي قمة يشارك فيها رؤساء ورؤساء حكومات دول أوروبية، بالإضافة إلى الملك عبدالله الثاني والرئيسين الفلسطيني محمود عباس والتركي عبد الله غول. تزامن انعقاد هذا التجمع الرفيع مع إعلان الحكومة الإسرائيلية وقف إطلاق النار وإعلان حركة المقاومة الإسلامية حماس، وقوى ملتحقة بها، وقفا آخر. وشدّد المؤتمر على خطوات تالية، وأهمها انسحاب قوات الاحتلال من قطاع غزة وفتح المعابر ورفع الحصار وضبط تهريب السلاح، ومثل هذا المؤتمر ما يمكن اعتباره مظلة أوروبية داعمة لدفع المبادرة المصرية، لوقف الحملة العسكرية الإسرائيلية باتجاه تنفيذ بنودها الأخرى، بالنظر إلى عدم امتثال تل أبيب لقرار مجلس الأمن 1860.

تتابعت المؤتمرات المذكورة، علماً أنّ مؤتمر قمة آخر سبقها، وهو القمّة العادية لقادة مجلس التعاون لدول الخليج العربي في مسقط، بعد يومين فقط على بدء العدوان الإسرائيلي، وجاءت على الحدث المباغت بالمطالبة بوقف العدوان، تماما كما مؤتمرات أخرى، دُعي إليها لتنعقد طارئة، على مستوى وزراء وبرلمانيين، وأهمها مؤتمر وزراء الخارجية العرب في القاهرة الذي عاين الشارعُ العربي الغاضب، والحانق على النظام الرسمي، فيه مسار انكشاف العرب الحاد أمام هول المذبحة التي كانت تتوالى في قطاع غزة، وعجزهم عن اتخاذ أي مبادرة فعلية وضاغطة باتجاه الولايات المتحدة وإسرائيل، تؤكد رسالةً عربية موحدةً للدولة العبرية تدفعها إلى وقف العدوان. وبانت في الاجتماع مؤشرات خلافات واصطفافات عربية وراء توجهين معلومين، قطبا الأول سورية ومعها قطر، اللتان رأتا وجوب عقد قمة طارئة تعلن تجميد أو سحب مبادرة السلام العربية، وتتخذ إجراءات أخرى، من قبيل إعلان مساندة سياسية للمقاومة الفلسطينية المسلحة، وتجميد أو إلغاء علاقات دول عربية مع إسرائيل. ورأى القطب الآخر، وتتزعمه السعودية ومصر، توجه وفد وزاري عربي موسع إلى مجلس الأمن الدولي ومحاولة استصدار قرار بوقف الاعتداءات العسكرية الإسرائيلية (وهو ما كان)، وأنه لا ضرورة ملحّة لعقد قمة لا تتوافر الأرضية اللازمة لقرارات ضاغطة وموحدّة تصدر عنها. وبدا الشارع العربي، والذي ساهمت بهمة نشطة قناة الجزيرة في توجيه المزاج الغالب فيه، داعماً للخيار الأول، الذي لم يُقيّض له التحقق، على الرغم من عمل دؤوب قامت به القيادة القطرية من أجل أن تنعقد قمة عربية طارئة، جهدت دمشق أيضا من أجل أن يكتمل النصاب اللازم لها، أو أن تنعقد «بمن يحضر»، بحسب تصريح الرئيس بشار الأسد، دلّ على الرغبة القوية لدى الدوحة ودمشق على كسب الشارع العربي إلى جانبهما، بمجرد عقد مؤتمر قمة. وكان مسار الأمور يؤشر إلى احتمال نجاح العاصمتين في مسعاهما، غير أن النصاب أخذ يتناقص، وهو ما أثار تبرم أمير قطر حمد بن خليفة آل ثاني، في خطاب له في ليلة من القصف الإسرائيلي المجنون.

أشاع إعلاميون ومثقفون عرب ناصروا «قمة غزة الطارئة» أنّ قراراتها ترفع سقف مقررات قمة الكويت بشأن غزة والملف الفلسطيني. ولم يكن ذلك دقيقا، ليس فقط بالنظر إلى ما صدر لاحقا في الكويت من قرارات غير متطابقة، بل أيضا بسبب انخفاض حماس الشارع العربي باتجاه ما تمّ إعلانه في الدوحة، ومنه الدعوة إلى تجميد العلاقات مع إسرائيل، وكان يمكن أن تستجيب لها قطر وموريتانيا من دون القمة المذكورة، فضلا عن أن التجميد المذكور سيكون مؤقتا، كما وصفَه لاحقا الوزير المصري أحمد أبو الغيط. إلى ذلك، شاعت أسئلة في الشارع العربي عن النفع المأمول من حضور الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد هذه القمة، وهو الذي لم تخرج بلاده عن الدعم اللفظي والإغاثي في نصرتها للفلسطينيين في غزة، كما غيرها من دول لا تنتسب إلى معسكر «الممانعة»، كما تستحسن تسميتَه دولٌ تنتسب إليه، تساءل الرئيس حسني مبارك عما قامت به فعلا هذه الدول للفلسطينيين في محنة العدوان الإسرائيلي.

ما جرى في الدوحة نجح في تظهير حالة الاستقطاب العربي، وفي استضعاف رئاسة السلطة الوطنية الفلسطينية، وكذلك في تأكيد البديهي وهو أن لأيٍّ من الزعامات العربية أن تقول ما تشاء عما تشاء أمام الكاميرات، من قبيل تذكير الرئيس بشار الأسد، في العاصمة القطرية لحظة غزة الساخنة، أن «ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة»، وهي عبارة جمال عبد الناصر الشهيرة. غير أن المحك الفعلي والأنفع للفلسطينيين، في كارثة العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة طوال 23 يوما، أو في استمرار حالة الانقسام والانفصال منذ أكثر من عام ونصف العام، هو ما يمكن إجراؤه عمليا والإفادة منه في تثمير صمود الفلسطينيين، والدفع بعيشهم نحو ما يحميهم من جموح الآلة العسكرية الإسرائيلية.

كان يمكن أن يكون للنيات الصادقة للمؤتمرِين في الدوحة فرص مُثلى للتحقق، إذا ما توجهوا إلى إنجاز مصالحة فلسطينية جديّة وقويّة، وإلى المساعدة البعيدة عن أي غرض في تمكين النظام السياسي الفلسطيني من تدعيم مؤسساته وهيئاته، وتنشيط التعددية فيه على أسس ديمقراطية. وكذلك في عملهم من أجل تأمين الدعم المالي والإغاثي اللازم للفلسطينيين في أرضهم. ويمكن الزعم أن المؤشرات التي عوينت، ولو جزئيا، في قمة الكويت، وفي المداولات السياسية فيها، نحو تنشيط دور عربي في هذا الشأن، مساندٍ لما تقوم به وتبادر إليه القاهرة في هذا الخصوص، يمكن أن تدفع إلى المتوخّى في هذا الخصوص، وإن لم تتجاوز المصالحات العربية اجتهادات وخيارات أطرافها في غير مسألة، من قبيل التعاطي مع إسرائيل والتطبيع والتفاوض معها، والحضور المصري في قضايا قطاع غزة.

في أجواء الاصطفافات والتجاذبات، فإنّ من أهم نتائج قمة الكويت، إضافة إلى التوافق على دعم مالي سخي لعملية إعادة البناء والإعمار في قطاع غزة المنكوب، المصالحة بين القيادتين السعودية والسورية، ويؤمل أن لا تكون مرتجلة وعابرة وظرفية، وفي موازاتها تبريد التوترات بين القيادتين المصرية والقطرية. إذ يتبدّى ذلك، فإن المسار العربي الرسمي، قد ينعطف إلى أجواء يتخفّف فيها من وطأة المكابرات والاصطفافات التقليدية، وذلك أمام الضرورات الملحة، ومنها وجوب تحقيق مصالحة فلسطينية لم يعد مسموحا التمادي في استسهال غيابها، بالنظر إلى استحقاقات مفصلية مرتقبة، أهمها الانتخابات الإسرائيلية في شباط المقبل، وقبل ذلك النتائج الإنسانية الشديدة الكارثية للعدوان على قطاع غزة. وكذلك المستجدّ الأميركي المتمثل في إدارة جديدة، آثرت تل أبيب عدم الالتفات إليها وهي تطلق الطائرات الحربية والصواريخ الفتاكة والقنابل الفسفورية على قطاع غزة.

وإذا ما قيّضت اندفاعة جديّة وفعليّة باتجاه المصالحة بين الرئاسة الفلسطينية وفصائل منظمة التحرير من جهة وحركة حماس من جهة ثانية، وباتجاه علاقات طيّبة بين سورية والسعودية، تتلوها تفاهمات بين دمشق والقاهرة، فإن الاجتهاد في محله، بشيء من التحوط وعدم الإفراط في التفاؤل، بأنّ قمم مسقط، الرياض، الدوحة، شرم الشيخ والكويت، على الرغم من توترات وتأزمات حفّت ببعضها، وباتت معلومة التفاصيل، تجعلنا نترقب مشهداً عربياً مغايراً، يستحقّ المنكوبون في قطاع غزة أن يلحظوا فيه غير الذي كان قدّام عيونهم وجروحهم طوال ثلاثة أسابيع من العذاب، لم يستقبلوا في خواتيمها (الأسابيع) متطوعين للقتال معهم، دعا إلى إرسالهم الرئيس علي عبد الله صالح، والذي كان حسنا ربما أنه لم يتحمس كثيرا لعقد قمة إسلامية، أغلب الظن أنها لو عقدت لكانت مضجرة، ولزومَ ما يلزم.

**

حكاية "الذبح من الوريد إلى الوريد"

أشعلت «قمة غزة الطارئة» خلافا بين الرئاسة الفلسطينية والدوحة، بخاصة أن القيادة القطرية استضافت ليشارك في أعمالها رئيس المكتب السياسي لحركة حماس خالد مشعل وأمين عام الجهاد الإسلامي رمضان عبد الله شلح والأمين العام للجبهة الشعبية-القيادة العامة أحمد جبريل. وفي معيتهم، حضرت قيادات قوى فلسطينية تكاد تكون منسية، مثل أبو موسى زعيم الحركة المنشقة عن حركة فتح.

صرح رئيس الوزراء وزير الخارجية القطري الشيخ حمد بن جاسم آل ثاني أنه تحدث بالهاتف مع الرئيس محمود عباس عشية القمة، وحثّه على حضورها وإشغال مقعد فلسطين فيها، وقال إن عباس أبلغه أن ضغوطا مورست عليه من أجل أن لا يحضر، وأنه إذا فعلها، وشارك في أعمال القمة التي أبلغه الأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى أنّ نصابها غير مكتمل، فإنه «سيُذبح من الوريد إلى الوريد». على إثر ذلك، تجندت طواقم رسمية فلسطينية عليا على الرد على هذا كله، بخاصة أن تصريح «الذبح من الوريد إلى الوريد» تم إشهاره على شاشة «الجزيرة».

وإلى ردود غير قليلة، اتصفت بعضها بالحدّة، بادر إليها أمين عام الرئاسة الفلسطينية الطيب عبد الرحيم وأمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير ياسر عبد ربه وغيرهما، عرض رئيس دائرة المفاوضات في منظمة التحرير صائب عريقات على ممثلي وسائل الإعلام في رام الله الحضور إلى مكتب الرئيس عباس، للاستماع إلى تسجيل المكالمة التي تحدث عنها الشيخ حمد بن جاسم. وأبلغهم أن من أراد من الصحفيين الحصول على التسجيل عليه أن يتوجه إلى مديرة المكتب انتصار أبو عمارة. وأضاف: «قال الرئيس عباس لرئيس وزراء قطر... قطر عزيزة علينا، وأنتم أعزاء، لكن القضية الفلسطينية دائما كانت مجمّعة وليست مفرقة. الضغوط التي تفرضها المذبحة علينا تذبحنا من الوريد إلى الوريد، وتحتم علينا أن نكون مجمّعين لا مفرّقين».

ختام موسم القمم: مصالحة تبحث عن مضمون
 
22-Jan-2009
 
العدد 60