العدد 60 - كتاب
 

إذا كان الاقتصاد الرأسمالي العالمي يئن في هذه الفترة تحت وطأة أزمة مالية ونقدية واقتصادية اعتبرت، وما تزال، بأنها الأوسع والأعمق منذ الكساد الكبير الذي انفجر في شهر تشرين الأول 1929، واستمر حتى 1933، فإنه ليس مستغرباً أن يعاني منها الاقتصاد الأردني بتوجهاته ومرتكزاته الليبرالية المماثلة والتابعة في الشكل وفي المضمون، وربما بوتيرة وتسارع أكبر.

وإذا كانت الأزمة المالية والاقتصادية والرأسمالية في مرحلة العولمة اتسمت بكونها شاملة وكامنة في مختلف جوانب النشاط الاقتصادي وفي انعكاساتها الاجتماعية والسياسية، فإننا لا ولن نفاجأ بوضع مشابه لامس معظم إن لم يكن كل فروع الاقتصاد الأردني ومكوناته وتداعياته الاجتماعية.

وكما ابتدأت الأزمة واشتدت هناك في القطاع العقاري، وفي شركاته وفي مؤسساته المالية والمصرفية الممولة والحاضنة له فيما عُرف بـ«أزمة الإقراض برهن عقاري عالي المخاطر»، فإنّ المسار نفسه لمسناه هنا.

هذا هو أهم معالم قوانين الرأسمالية وتناقضاتها وفوضى الإنتاج فيها، وحتمية تعرضها إلى أزمات الدورة الاقتصادية التي تسارعت واشتدت مع اتساع هيمنة الليبرالية الجديدة، وتنامي قوى المضاربة، والتلاعب بالعملات والمشتقات النقدية، وتحريك عمليات البورصات، وفي تأسيس وإدارة الشركات النفطية والمالية والمصرفية العادية منها والقابضة، الحقيقي منها والوهمي، التي امتدت مع وبعد إلغاء وشطب الكثير من قواعد التأطير والتقنين والمتابعة والتقييم الإصلاحي.

وتبعاً لما تقدم، تركز النمو أو مشاريع «التنمية العرجاء» الأردنية في السنوات الأخيرة في قطاعات خدمية فرعية، وبالذات في البورصة، وفي القطاع العقاري، وإلى درجة التورم والتخمة، وبتأثير العديد من الأسباب الذاتية، ونتيجة تداعيات عوامل اقتصادية وتمويلية أخرى محلية وخارجية، دفعت إلى اتخاذ سلسلة من القرارات والسياسات الاقتصادية الصندوقية وإلى إجراء تغييرات تشريعية موازية أو محاولة التأثير فيها في الاتجاه نفسه.

فبعد أن كان التملك في العقار، أرضاً كان أم مبنى، غير مسموح به لغير الأردني، إلا جزئياً، وضمن شروط إجرائية سيادية، فإنّ المسألة تحولت بعد ذلك إلى فتح كل الأبواب والشبابيك لتملك ومتاجرة غير الأردنيين في العقار، وفي تأسيس وملكية كاملة للشركات العقارية وغيرها، ومنحها العديد من أشكال التسهيلات والمزايا الإجرائية والإعفاءات الضريبية بمبرر «تشجيع وتحفيز وجذب الاستثمار والمستثمرين» المتآكل مما خلق طلباً استثنائياً على العقار وقفزات غير مسبوقة في أسعاره، تدعم وتعمّق أيضاً مع تدفق مئات الآلاف من الأخوة العراقيين إلى البلاد خلال وبعد الغزو الأميركي للعراق واحتلاله.

ومع غياب أو تغييب نهج التخطيط الاقتصادي، وإضعاف الدور الحكومي في ترشيد القرار الاستثماري وتوجيهه، وتحويل وزارة التخطيط إلى وزارة «جباية منح ومساعدات أجنبية»، أساساً، فإنّ معظم تحويلات المستثمرين الأجانب، ومعظم تحويلات الأردنيين المغتربين توجهت أو وُجهت إلى «نشاطات المتاجرة أو المضاربة بالأراضي والمباني والأسهم، وتولدت مئات من الشركات الجديدة ضعيفة الخبرة والمقدرة في قطاع البناء والمتاجرة بوحداته السكنية والتجارية، وفي إنشاء المولات والمجمعات والمنتجعات وإقامة ضواحي النخبة الفخمة والمرفهة.

وفي موازاة ذلك، سارعت معظم البنوك إلى التوسع في تحويل العقار، أي عقار، وساهمت في تفاقم فقاعته وفي خلق وقائع مقولة «سكان بلا ساكن ومساكن بلا سكان»، وقد أفرطت في عمليات الإقراض العقاري ليتضاعف خلال فترة (5 سنوات) ما يقارب (3 مرات).

وبدلاً من توسيع الأرض الزراعية أو على الأقل حمايتها من التآكل، عمدت أمانة عمّان وبلديات أخرى إلى توسيع مناطق وحدود التنظيم، وامتداد النشاط في تجارة العقار إليها.

ومقابل مخاوف وتحذيرات العديد من الدارسين والمحللين من المخاطر والخسائر الكامنة في مثل هذا التوجه التوسعي العقاري المفرط والتحسب المسبق لإمكانية انفجار الفقاعة العقارية وانعكاساتها السلبية على نشاطات وقطاعات اقتصادية أخرى مساندة له ومرتبطة به، فإنّ منظّري تحرير الاقتصاد، ومستشاري شركاته العقارية أمطرونا بمقولات تؤكد بـ«أن القطاع العقاري كان واعداً وسيبقى كذلك»، وأن الطلب عليه سيتنامى، وسيستمر في جذب الاستثمار إليه، وبأنه القطاع الأكبر أماناً وربحية وجدوى!!

ورغم تعدد مؤشرات ومظاهر وقوع القطاع العقاري في نفق تباطؤ متسارع ظهر في تبلور «فائض في الوحدات العقارية» وتراجع زخم الطلب عليها، واستخدام الوسائل الإعلامية كافة لترويجها وتسويقها، فإنّ الاعتراف بالمأزق العقاري جاء في وقت متأخر، وفي نطاق مطالبة فعاليات وشركات عقارية خاصة متعثرة أو قريبة من التعثر للحكومة بالتحرك إلى دعم وإنقاذ ا لقطاع العقاري وانتشال ما تعثر من شركاته وفعالياته.

الإنقاذ أو الدعم المالي الحكومي المباشر لهذا القطاع ولغيره ليس مطلوباً وليس مقبولاً لكل الجهات التي توسعت بلا حساب وغامرت وارتكبت العديد من التجاوزات والخطايا، كما أن خزينة البلاد مثقلة بأعباء مديونية كبيرة، وبعجز قياسي متزايد في الموازنة والحسارب الجاري، وتراجع متوقع في إيراداتها، فيما يمكن لها فقط اعتماد تسهيلات إجرائية بالتنسيق مع البنك المركزي في تأجيل سداد القروض المصرفية أو إعادة جدولتها بشروط ميسرة، ويسبق ذلك ويرافقه ويتبعه تبني تغييرات واسعة في التوجهات والسياسات الاقتصادية والاجتماعية المسببة للأزمة وإعادة الاعتبار إلى الدور الحكومي الفعّال في تخطيط الاقتصاد، وتعزيز آفاق تنميته المتوازنة والعادلة.

أحمد النمري: قطاع عقاري مأزوم: أي إنقاذ؟
 
22-Jan-2009
 
العدد 60