العدد 60 - ثقافي
 

فريهان الحسن

مساء السبت الماضي (17 كانون الثاني/يناير) كانت النهاية؛ حين جاء الموت مباغتا. أما البداية فقد كانت قبل ذلك بستة وخمسين عاما، أراد لها أن تكون أعواما حافلة بالإبداع الموسيقي على اختلاف أنواعه.

ما بين البداية والنهاية، كان الفنان الراحل عامر ماضي منحازا دائما لهويته الخاصة، التي رأى في الموسيقا تعبيرا غير متطرف عنها.

يقول عنه نائب نقيب الفنانين الأردنيين صبحي الشرقاوي إنه «واحد من أعمدة الحركة الموسيقية الأردنية الواعية والمثقفة»، وإنه «لم يسقط يوما في ما يسمى (الموسيقا التجارية)».

وُلد ماضي في جبل القلعة، وبالتحديد في حي القيسية، العام 1953، لأب يعود في أصوله إلى مدينة العقبة، وأم من أصول شركسية. أما الجد، فقد كان واحدا من القضاة العشائريين المميزين في الجنوب الأردني.

لعل هذا التمازج الحضاري بين هويتَي الأم والأب، وجدّ ممعن في الأصالة، أثّر كثيرا في شخصية الراحل، الذي انحاز إلى إبداعه والتزمه على أكبر قدر من الالتزام.

تعلُّقه بالموسيقا ربما جاء، بتأثير المواهب التي تجلّت في شخصية الأبوين؛ الأب أجاد العزف على آلة العود، والأم كانت تعزف على آلة الأكورديون. أما هو فقد اكتشف موهبته الموسيقية بالصدفة عندما كان يستمع إلى عزف أخيه، الفنان مالك ماضي، على آلة العود، لينتظم بعدها بالدراسة ويتعلم العود على يد عبد الكريم عوض في العام 1968.

بعدها بأربعة أعوام التحق بالمعهد الموسيقي الأردني، متحولا عن آلة العود إلى آلة التشيللو التي درسها على يد الموسيقي الراحل يوسف نصرة، ليتوجه بعدها إلى القاهرة هو وأخوه مالك، رغبةً منهما في تدعيم الموهبة وصقلها بالدراسة.

التحاقه بالمعهد العالي للموسيقا العربية-أكاديمية الفنون في القاهرة، جاء تتويجا لموهبته الاستثنائية، وتحولاً من الموهبة باتجاه الاحتراف المستند إلى البعد الأكاديمي، ليتخرج فيها في العام 1979 حاصلا على درجة البكالوريوس في الموسيقا، تخصص آلة التشيللو، وبتقدير ممتاز.

الأمر الآخر الذي توافر له خلال إقامته في القاهرة هو اللقاء بموسيقيين كبار، والاطلاع على أعمال وعروض موسيقية وفنية هناك، وبخاصة الأعمال المسرحية منها. ينقل عنه الفنان صخر حتر في أطروحته للماجستير «موسيقا عامر ماضي في الدراما الأردنية» قوله عن تلك الفترة: «لم يكن ثمة طالب مصري أو عربي شاهد مسرحيات أكثر مني، وذلك بسبب حبي للمسرح والموسيقا، ومما ساعدني على ذلك أن أسعار التذاكر كانت تشجيعية لطلبة المعاهد الفنية».

موهبته في التلحين تفتحت في وقت مبكر جداً، ليثبت مقدرة وموهبة عاليتين، هو الذي لحن على مدار حياته للعديد من المطربين، من أمثال إسماعيل خضر، وفهد نجار، وصبري محمود، وسهام الصفدي، وفؤاد حجازي.

الموسيقي صخر حتر يرى أن ماضي «فنان مثقف جدا، وليس هناك موسيقي في الأردن لم يستفد من تجربته».

مقولة حتر لها ما يبررها، فماضي يعدّ موسيقياً شاملاً ومتنوعاً، نهل من جميع الحقول الموسيقية: المؤلفات في الموسيقا الشرقية، والموسيقا الآلية والغنائية، والموسيقا الدرامية والتصويرية للمسلسلات والمسرحيات، إضافة إلى محاولاته إعادة صياغة الموروث الشعبي.

توجهه إلى الموسيقا الدرامية كذلك جاء مبكرا، وأول إنجاز له في هذا المجال كان من خلال مشاركته في مسرح الواصفية، مقدما لوحة غنائية بعنوان «يا حاملة الجرة» في مسرحية لفؤاد الشوملي العام 1971.

علاقاته مع كثير من المسرحيين ولّدت لديه ميلاً للموسيقا الدرامية. واهتمامه بكل ما يُعرض على المسرح أسهم في تكوين حصيلة ثقافية مهمة شكلت له انطلاقة قوية نحو هذه الموسيقا.

قبل ذلك كان ماضي اختبر العمل الإذاعي بعد تخرجه في القاهرة مباشرة، إذ عمل في الإذاعة الأردنية لأكثر من عام، أعد خلالها موسيقا لمسلسل «أميرة سجلماسا» الإذاعي، من تأليف الشاعر سليمان المشيني، وإخراج موسى عمار.

رغبته في التفرغ للعمل الخاص من تلحين وتدريس، اضطرته إلى ترك العمل في الإذاعة، ليواصل بعدها إعداد الموسيقا الدرامية للمسلسلات الإذاعية، ومنها مسلسل كان يؤرخ لـ «أبو خليل القباني».

في تلك الفترة كان ينجز عملين أو ثلاثة أعمال في كل عام، مستمرا على هذا المنوال على مدار خمسة أعوام، إضافة إلى تلحينه كثيراًَ من إشارات مسلسلات الأطفال: «سنبل»، «زيكو العجيب»، «دكان الألعاب»، و«مكارم الأخلاق».

أما أول عمل تلفزيوني له فكان «فيروز والعقد» الذي كانت إشارته «عذّب الجمال قلبي»، التي اشتهرت كأغنية حفظها الناس.

في العام 1980 ساهم في تأسيس رابطة الموسيقيين الأردنيين، وتم انتخابه لمنصب أول رئيس لها، كما انتُخب رئيسا على مدى ست دورات متتالية.

نشاطات الرابطة الموسيقية المختلفة تكللت بتأسيس فرقة النغم العربي التي قدمت كثيرا من الأعمال الجادة والمهمة، مشكّلةً بادرةً لإحياء التراث الموسيقي العربي.

عندما كان مدرّساً لآلة التشيللو في جامعة اليرموك وفي المعهد الوطني للموسيقا، لعب دورا مهما في تشكيل نواة أول أوركسترا أردنية في قسم الموسيقا بجامعة اليرموك، التي قدمت أولى حفلاتها في أيار/مايو 1984 على المسرح الرئيسي في المركز الثقافي الملكي.

كان نجمُ ماضي ساطعا عندما استقطبته مؤسسة «أضواء الفن» المسرحية، ليؤسس فيها فرعاً تربوياً هو «مركز دار الفن»، الذي عُرف في ما بعد باسم «مسرح الفوانيس».

ماضي كان يعدّ «الفوانيس» محطة مهمة في مسيرته الفنية. يقول في أحد حواراته مع صخر حتر: «إنها تجربة مميزة حققت ذاتي الفنية على أكمل وجه». وكان مسرح الفوانيس قدم مسرحيات عدة شكلت الموسيقا نسيجاً أساسياً فيها، وكان دور ماضي أساسياً في تلك المسرحيات.

رحيله يراه أصدقاؤه وتلامذته «فاجعا»، و»خسارة كبيرة للساحة الموسيقية الأردنية». ويقول المخرج المسرحي نادر عمران إن ماضي «طاقة موسيقية مهمة له بصمته الابداعية الخاصة في أعماله».

الموت ليس قادرا دائما على إنهاء مسيرات العطاء. النسيان هو الذي يتكفل بهذا الجانب في العادة، لذلك يراهن أصدقاؤه ومحبوه وتلامذته على أن هناك من سيلتفت إلى إرث ماضي مجددا فيه، ومحاولا التوصل إلى ميزته الأساسية.

عامر ماضي إذ يرحل: الانحياز إلى هوية خاصة
 
22-Jan-2009
 
العدد 60