العدد 60 - حريات
 

بثينة جوينات

يحدث العنف الأسري نتيجة الفقر المدقع، أو الثراء الفاحش، بحسب الطبيب النفسي محمد الحباشنة، الذي يوضح أن العنف الأسري يتزايد على طرفي السلم الاقتصادي الاجتماعي. وهكذا، فإن الفقر، وما ينتجه من ضغوط المعيشة والعجز عن تلبية الاحتياجات الأساسية للحياة، هو أحد الأسباب الرئيسية للعنف الأسري.

الطبيب النفسي جمال الخطيب، يؤكد وجود علاقة طردية قوية بين الفقر والعنف الأسري، كما بين الظروف الاجتماعية الصعبة الأخرى، وهذا النوع من العنف. الفقر يُنتج ضغطاً نفسياً هائلاً على رب الأسرة،إذ يجد نفسه مكبّلاً وغير قادر على تلبية متطلبات أسرته، فيندفع لممارسة العنف تجاهها، لأنها المجال الذي يستطيع التأثير فيه، عند كل مرة يحدث فيها احتكاك مع أفراد الأسرة. ينعكس ذلك بحسب الخطيب، على تماسك المجتمع، إذ كلما زادت حالات العنف الأسري، زادت حالات تفكك الأسر، ثم عدم توازن أفرادها، وزادت إمكانية وقوع اختلالات مجتمعية، وتكاثرت المشاكل الاجتماعية، والاضطرابات المتعلقة بالانحراف والجنوح وما شابه.

الوقائع الميدانية، تؤكد هذا الترابط الطردي بين العنف الأسري والفقر. تروي عالية (29 عاماً) انعكاس فقر أبيها على تماسك أسرتها، فتقول إن أباها لم يتعاط معها إلا بالضرب والإهانة، حتى إنه أجبرها على ترك المدرسة حين كانت في الصف الثالث الإعدادي، من أجل العمل في محل تجاري تحصل منه على راتب شهري، وتستخدمه في الإنفاق على والدتها وأخوتها، وعلى نفسها، بعد أن أصيب في قدمه بإصابة، بات غير قادر على العمل بسببها. تضيف عالية إنها لا ترغب اليوم في رؤية والدها من جديد، فقد حرمها «عنفه» تجاهها من مواصلة تعليمها، ثم قاد إلى تشتت العائلة حين لم تعد أمها تحتمل ذلك العنف، فطلبت الطلاق لتحمي أولادها من تعرضهم المستمر للضرب، الذي كان يدفعهم للهرب إلى بيوت الجيران والدماء تسيل من أجسادهم، وهكذا ذهبت الأم وأولادها إلى بيت أبيها، لكن الوضع لم يكن أحسن حالاً هناك، إذ تروي عالية أن أخوالها كانوا يعاملونها بقسوة أيضاً، ويجبرونها على إعطائهم المال الذي تحصّله من عملها، فتتابعت قسوة الحياة عليها لسنوات.

رنا (33 عاماً) هربت من بيت عائلتها لما تعرضت له من عنف بدني ونفسي على يد أبيها، مؤكدة أن حالة أبيها المادية المتردية، لها أكبر الأثر على سوء سلوكه تجاهها وتجاه إخوتها. كان الأب يعمل حارساً في مدرسة خاصة، ولم يكن دخله الشهري يكفي لتأمين متطلبات أولاده الستة، لذلك كان يعمد إلى عدم التدخل في قضايا البيت، وحين يتدخل تكون أداته واحدة هي الضرب. أما الأم فقد عانت من كآبة مزمنة، وتذمر مستمر، والانفعال لأتفه الأسباب. لهذا كله، لم تعرف رنا وإخوتها الراحة والاستقرار، حتى نما معهم الإحساس بالنقص مقارنة بمن حولهم من جيران وأقارب، نتيجة رداءة أوضاعهم المعيشية، مسكناً ولباساً وطعاماً، حتى تحول الستة إلى ما يشبه العصابة الشرسة، التي يخاف منها أولاد الجيران ويفرّون حين رؤيتها.

توضح رنا أن أخاها الأكبر كان الأكثر تأثراً بحال العائلة، إذ انطوى على نفسه بسبب عجزه على مجاراة نظرائه في المدرسة، ما انعكس سلبياً على تحصيله العلمي، فترك الدراسة وسعى للحصول على عمل ولو مقابل القليل من المال، وظل يتنقل من عمل إلى آخر ويطرد منه لعدم التزامه، وإدمانه على الخمر. أما الأخ الثاني فقد طُرد من المدرسة بسبب ميوله للتمرد والتمادي على مدرسيه، فارتد ذلك على إخوته، إذ صاروا يعانون من سوء سلوكه معهم. في هذه الظروف، وافقت أختها الكبرى على الزواج برجل يكبرها بنحو عشرين سنة، أما الثانية فتزوجت بآخر منعها من زيارة أهلها. هربت رنا أخيراً، وهي تعمل اليوم عاملة في بيت أحد الأثرياء، لكنها لا ترغب برؤية أي من أفراد عائلتها مع أنهم يحاولون الاتصال بها بين فترة وأخرى.

لكن، هل يرتبط العنف الأسري بالرجل دون المرأة؟ الطبيب الحباشنة يوضح أن الدراسات تشير إلى أن ما نسبته 95 بالمئة من حالات العنف الأسري يكون موجهاً من الرجل ضد المرأة، أما الخمسة بالمئة الباقية من الحالات، فيكون العنف الأسري فيها موجهاً من المرأة إلى الرجل.

تنتمي فريال (28 عاماً) لفئة الخمسة بالمئة هذه، وتروي إن الظروف المادية الصعبة التي تعيشها مع زوجها، تضطرها، في أحيان كثيرة، إلى استخدام العنف ضده، إذ تضربه وتطرده من المنزل، بسبب إدمانه على الخمر، وعودته إلى البيت في أغلب الأحيان فاقداً الوعي، بخاصة بعد أن فُصل من عمله بسبب إهماله وتغيّبه المستمر. تضيف فريال أنها عملياً تؤدي دور الأب والأم معاً، وتتحمل المسؤولية كاملة عن بيتها وأطفالها الأربعة الذين ما زالوا في مراحل دراستهم المبكرة، فزوجها يعتمد عليها اعتماداً كاملاً، ويرفض البحث عن عمل جديد يسد احتياجات العائلة المالية. أما كيفية الضرب، فيتم، في أغلب الأحيان، بالتشابك بالأيدي، ورمي الأشياء الصلبة والمواد السائلة تجاهه. تعتقد فريال إن هذا العنف انعكس سلبياً على نفسيات أولادها، فباتوا يعانون من ضعف في شخصياتهم لدى التعامل مع الآخرين.

هناء شفيق، المرشدة النفسية في إحدى المدارس الخاصة بعمّان، تلاحظ في الحالات التي تتعامل معها من الطلبة الذين يحوّلون إليها لمعالجة تصرفاتهم غير السوية داخل المدرسة، أن حالات العنف والجنوح لا تصدر عن الطالب الفقير فقط، بل هناك عدد لا بأس به من أبناء العائلات الموسرة يمارسون سوء السلوك، تماماً كأقرانهم غير الأغنياء. تفسر هناء ذلك بأن الطالب الفقير تنتج تصرفاته عن الضغوط النفسية التي يعانيها، كون عائلته غير قادرة على تلبية طلباته، أما الطلبة من أبناء العائلات الغنية، فتنجم تصرفاتهم غير السوية عن إهمال الأهل في مراقبتهم، ومنحهم مصروفاً يومياً مرتفعاً، ما يبعدهم عن حس المسؤولية.

من التصرفات غير السوية لطلبة المدارس، التي يتجلى العنف في بعضها بحسب هناء،: التدخين، السرقة، تناول الخمر، عدم الرغبة في الدراسة، كره المنزل وعدم الرغبة في العودة إليه. ومعظم أنواع السلوك هذه له جذوره في البيت، إذ يشاهد الطفل العنف بأمّ عينيه.

موظفون ذوو علاقة بموضوع العنف الأسري في وزارة التنمية الاجتماعية، رفضوا تزويد «ے» بمعلومات وأرقام عمّا يردهم من حالات، بدعوى أنهم «غير مخوّلين بالإفصاح عن أية معلومة».

الفقر والعنف الأسري: علاقة طردية تنعكس على سلوك الأطفال
 
22-Jan-2009
 
العدد 60