العدد 59 - ثقافي
 

السّجل - خاص

أنّات موسيقى؛ فنانون يتّشحون بملابس سوداء؛ شاشة عرض تُواصل سرد الحكايا حول شيوخ وأطفال وشباب سقطوا جرّاء آلة الغدر الصهيونية، ذنبهم أنهم فلسطينيون؛ كلمات حارقة تسطر جسد الشاشة، إضاءة شبه معتمة.

هذا هو المشهد الذي أثّثَ فضاء مسرح البلد خلال تظاهرة غنائية موسيقية وشعرية أدائية نظمها تضامناً مع غزة، وتكريماً للشهداء، واستذكاراً للضحايا، وشجباً للعدوان الإسرائيلي.

في افتتاح التظاهرة، تصاعدت الموسيقى واحتدّت ثم أخذت بالخفوت لتعلو كلمات من شعر محمود درويش بصوت الفنان عامر الخفش: «إن لم تكن مطراً يا حبيبي، فكن شجراً مشبعاً بالخصوبة، كن شجراً، وإن لم تكن شجراً يا حبيبي، كن حجراً، وإن لم تكن حجراً يا حبيبي، فكن قمراً في منام الحبيبة، كن قمراً، هكذا قالت امرأة لابنها في جنازته»، ثم قُدمت الكلمات نفسها مترجمة إلى الإنجليزية بصوت ريم أبو كشك.

عاودت المقطوعات الموسيقية من تأليف طارق يونس، التي عزفها على البيانو بالتناوب: تالا توتنجي، زينة عصفور، طارق يونس، وعمر الفقير، تصاعدها الحزين، متداخلةً مع أصوات: سمر دودين، سيرين حليلة، وناديا عودة، وهن يعدّدن أسماء شهداء فلسطينيين، من بينهم عائلات بأكملها دفَنها الحقد تحت أنقاض المنازل.

كانت الأسماء تظهر وتمحَى من شاشة العرض التي صممها رائد عصفور، ثم تتكرر القراءة وتتمازج الأصوات وتحتدّ، لتبدأ بعدها الأصوات بالخفوت وتتصاعد الموسيقى مرة أخرى، ما أسس لمشهد درامي مهيب يليق بجلال الشهداء وعظمة حضورهم.

صور الصواريخ التي تشق طريقها عبر السماء، يوحي كلٌّ منها بكفن طفل فلسطيني سلب منه الصهيانة حقَّ الحياة، كانت الأكثر تأثيراً ووقعاً في النفس، ليقرأ الخفش مرة أخرى من شعر درويش: «هنا، عند منحدرات التلال، أمام الغروب وفوهة الوقت، قرب بساتين مقطوعة الظل، نفعل ما يفعل السجناء والعاطلون عن العمل.. نربّي الأمل».

تواصلت التظاهرة مع غناء أيمن تيسير بمرافقة عوده، «شاطئ الأحزان»، من كلمات عوني قدورة، التي تحكي قصة الطفلة هدى التي فقدت أفراد عائلتها بصاروخ استهدفهم عندما كانوا يتنزهون على شاطئ بحر غزة: «يا شاطئ الأحزان، صرخت هدى، وصراخها شق الفضا، أبتاه.. أماه.. إخوتي، يا منتهى وجعي، لا تتركوني للضياع، لوحدتي ولأدمعي»، كما غنى تيسير «فلسطين» من تراث محمد عبد الوهاب، وكلمات محمود طه.

العازف والمؤلف الموسيقي طارق الجنيدي، وعازف الإيقاع مهند عطا الله الذي امتزجت آهات صوته بالموسيقى، قدما مقطوعات مؤثرة، تداخل فيها شجن الناي الحزين مع صوت وتر الكمان، ليدير الفنانون الواقفون على المسرح بملابسهم السوداء وجوهَهم نحو الشاشة التي واصلت عرضَ صور الدمار والقتل والخراب الذي حلّ بغزة: أطفال اخترقت رصاصات جيوش الاحتلال الإسرائيلي أجسادهم، وهُشّمت رؤوسهم؛ شباب يُضربون بلا رحمة، نساء ينتحبن، شيوخ لم تراعَ حرمة كهولتهم.

تتعاقب صور الجرح النازف في غزة، وتظل الموسيقى تعلن الحداد الغاضب، ولا تهدأ إلا لتعلو كلمات درويش: «وأنت تعدّ فطورك، فكّر بغيرك، لا تنسَ قوت الحمام، وأنت تخوض حروبك، فكّر بغيرك، لا تنس من يطلبون السلام، وأنت تسدد فاتورة الماء، فكر بغيرك، من يرضعون الغمام، وأنت تعود إلى بيتك، فكر بغيرك، لا تنس شعب الخيام، وأنت تنام وتحصي الكواكب، فكر بغيرك، ثمة من لم يجد حيزاً للمنام، وأنت تحرر نفسك بالاستعارات، فكر بغيرك، من فقدوا حقهم بالكلام، وأنت تفكر بالآخرين البعيدين، فكر بنفسك، قل: ليتني شمعة في الظلام».

التظاهرة التي تفاعل معها جمهور اكتظت به قاعات مسرح البلد وأروقته، وشهدت ازدحاماً شديداً، اختُتمت بعرضٍ أظهر درويش في آخر أمسياته برام الله في تموز/يوليو 2008، أكد فيه درويش أن «على هذه الأرض ما يستحق الحياة، تردد إبريل، رائحة الخبز في الفجر، آراء امرأة في الرجال، كتابات اسخيليوس، أول الحب عشب على حجر أمهات تقفن على خيط ناي، وخوف الغزاة من الذكريات، على هذه الأرض ما يستحق الحياة».

ظل الجمهور الذي اصطبغ بصبغة عائلية، يردد كلمات القصيدة مع الشاعر، يصفق له، ويتفاعل معه كما لو كان حاضراً بجسده لا صورته، وما إن وصل درويش إلى ختام قصيدته: «على هذه الأرض، سيدة الأرض، أم البدايات، أم النهايات، كانت تسمى فلسطين، صارت تسمى فلسطين، سيدتي.. أستحق لأنك سيدتي، أستحق الحياة»، حتى وقف الجمهور تحية لروح الراحل، وقد امتلأت العيون بالدموع.

التظاهرة النوعية التي حضرها مئات من أطفال ونساء ورجال وُجهت الدعوة إليهم عبر البريد الإلكتروني والرسائل الخلوية، اختُتمت بترديد الجمهور مع الفنانين والناشطين المتطوعين الذين نظموا التظاهرة، نشيدَ «موطني».

في تظاهرة “من أجل غزة”:: موسيقى وشعر وحزن على مسرح البلد
 
15-Jan-2009
 
العدد 59