العدد 59 - ثقافي
 

نوال العلي

كلما رحل أحد المبدعين، كبيراً كان أو صغيراً، تنتاب الصحفي حالة، يشعر فيها أنه ليس سوى شخص مكلف بإلباس الميت ملابس أنيقة ووضع القليل من مساحيق التجميل، وإضفاء شيء من الحياة على الجثة المسجاة في تابوت استعداداً للنظرة الأخيرة. لكن مهلاً، الحديث هنا عن فنان عشق الموسيقى، وعلّم الناس أن يعشقوها مثلما علّم أبناءه الثلاثة. حتى إن لم يقدم الروائع وحيداً، لكن ربما يشفع له لدى الحديث عن الفن أنه كان ثالث اثنين: فيروز، وعاصي.

هل يكون المرء أقل أدباً وتهذيباً، وأكثر لؤماً، حين يقول إن منصور الرحباني مات فعلاً، يوم الثلاثاء (13/1/2009) في مستشفى أوتيل ديو، عن عمر يناهز 84 عاماً – هو المولود في العام 1925- وبعد معاناة مع المرض. منصور الموسيقي والشاعر كان يموت ببطء منذ سنوات، وبالتحديد منذ رحل عاصي؛ الشقيق الذي امتلك ذرة من الجنون، مع التحفظ على كثير من النحل الموسيقي والشعري في التراث الرحباني العظيم في جزء كبير منه. فهل يذكر أحد مقطعاً صغيراً من «المتنبي» لمنصور؟ وكيف تسنى لكثيرين أن يحفظوا جلّ كلمات «ميس الريم» إن لم يكن كلها؟

لم تكن المجموعات الشعرية الخمس التي أطلقها كلها دفعة واحدة العام الفائت عن دار النهار، إلا اعترافات لم تكن ليتم تمريرها إلا بهذه الطريقة: «أنا الغريب الآخر»، و«أسافر وحدي ملكاً»، و«بحّار الشتي»، و«القصور المائية»، و«قصائد مغنّاة».

عاصي وبيروت، مفردتان أساسيتان عاشت عليهما كثير من قصائد منصور واقتاتت منها، شوقه لأخيه ترجمه برحيله الأخير بعد أن كتبه منذ سنين في قصيدته «إلى عاصي» من مجموعته «قصور مائية»: «يا عاصي/ لو فييّ بَطّل هالأدويهِ/ كنت قوام بلْحَقَكْ/ بس يِمْكن أنا جبان». هكذا كانت حاله في «أسافر وحدي ملكاً»، وهو كتاب ضمّ قصيدة واحدة كُتبت بين العامين 1982 و1988، يبدؤها بمناجاة عاصي أيضاً، ثم يخاطب بيروت: «بالإسمنتِ علوتِ/ حين تعاظم فيك المالُ/ وَقَعْتِ».

أما مجموعته "أنا الغريبُ الآخر"، فيقدم فيها اعترافاته في بار البيكادلي، ورسائله إلى الصديقة، وتبرم قدر ما يستطيع من العيش والحزن. "أهاجرُ في شفتيك أنسى/ كتاب حياتي/ محتْ قُبَلُ الليل وجهي القديم/ محت ذكرياتي/ تجمع في قبلتين الزمان/ فلا هو ماض ولا هو آت".

جمع منصور زجلياته كلها في مجموعته المكتوبة بالعامية "بحار الشّتي" التي أهداها إلى زوجته الراحلة "تيريز". من "نسوان القدر" يقول منصور: "وشو هَـ الشتي/ الْـ جايي من خوابي النبيذ/ شو هَـ الهوا/ الْـ طالع من سهول الغفا/ وبين السما والأرض شلاّل انطفى/ وبين العتم والضو/إ نسان اختفى".

وأخيراً، وضع منصور في "قصائد مغنّاة" بعضاً مما كتبه هو وعاصي وغنّته فيروز، فخصص القسم الأول لقصائد الحب والغزل. ثم "واحات"، وفيها قصائد عن مدن عربية. أما القسم الثالث فضم القصائد المكتوبة لفلسطين، ومنه قصيدة "زهرة المدائن" ذائعة الصيت، و"سنرجع يوماً إلى حينا".

بصرف النظر عن المستوى الفني لأعماله ، كتب منصور مسرحيات تنتقد الأوضاع السياسية، وضعف الأوطان العربية وتخاذلها، عبر طريق مواربة شقها من بوابة التاريخ: «انتبهوا عالوطن .. انتبهوا.. الوطن عم بيطير، طار الكرسي، واللي على الكرسي.. ونحنا ملهيين" (من "حكم الرعيان"). فبعد أن رحل عاصي في العام 1986، بدأ اسم منصور يظهر وحده من دون فيروز أيضاً، فكتب شعرياً وموسيقياً مسرحية «صيف 84» من بطولة غسان صليبا وهدى حداد، وواصل تقديم مسرحياته، ومنها: «الوصية»، و«ملوك الطوائف»، و«حكم الرعيان»، و«آخر أيام سقراط»، و«النبي» المأخوذة عن نص جبران خليل جبران، و«المتنبي»، ثم «زنوبيا»، وآخرها «عودة الفينيق» التي ما زالت تُعرض حتى الآن في كازينو لبنان.

من الواضح لدى قراءة عناوين المسرحيات، لجوء منصور إلى مفردات وأحداث وشخصيات تاريخية، ليقدم نوعاً من العِبَر الوطنية المعاصرة. كان التاريخ مرآته في أعمال غنائية امتلأت بالإيقاعات العسكرية والبهرجة الموسيقية والمسرحية المتكلفة البعيدة عن العبقرية الرحبانية التي تألقت في البدايات.

في كل مرةٍ قدم فيها عملاً جديداً، حاول منصور أن يُبرز صوتاً نسائياً. كانت بدايات محاولاته تلك مع هدى، لكنها رغم جمال صوتها لم تحل محل شقيقتها فيروز، مثلما هي حال منصور تماماً الذي لم يتمكن من سد المكان الشاغر الذي تركه عاصي برحيله. وهكذا ظل الاثنان ظلَّين لم يحقق أيٌّ منهما نجاحاً كبيراً. وهذا أيضاً ما يعكس محاولات منصور الاعتماد على أصوات نسائية رئيسية في مسرحياته، مثل كارول سماحة.

منصور الرحباني، الشرطي الذي استقال والتحق بدراسة الموسيقى، لاحقاً بشقيقه الحبيب، قضى جلّ حياته في أنطلياس، حيث وُلد، ولم ينكر النقصان الذي أصاب موهبته لدى غياب عاصي. يموت الآن الطرف الثاني من حالة موسيقية وثقافية قد لا تتكرّر، هذا الغياب الذي سيثقل على فيروز التي وجدت عزاءها في ابنها زياد.. لكنها تعرف أنها لن تغنِّ أغاني مثل: «سألوني الناس عنك سألوني»، هذه الأغنية التي غنّتها يوماً لعاصي، ستحمل معنى وطابعاً آخرَين اليوم بوفاة منصور.

نوال العلي: “بحّار الشِّتِي” الذي عشق الموسيقى
 
15-Jan-2009
 
العدد 59