العدد 59 - أردني
 

دلال سلامة

بين أعمال الاحتجاج والتظاهر العديدة التي نظمها مواطنون احتجاجاً على العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، برزت خيمة الاعتصام التي أقامها بعض المتظاهرين قبالة السفارة الإسرائيلية في منطقة الرابية، شكلاً حضارياً راقياً للتعبير عن الغضب العارم المتأجج في القلوب، على خلفية التأثر بالفظائع التي تجري في قطاع غزة.

كانت هناك تظاهرات واعتصامات ومهرجانات خطابية تحرسها الشرطة، ويحضرها عشرات الآلاف يتفرقون بعدها بهدوء، فيما خيمة الاعتصام باقية بعزم الشبان المعتصمين فيها وإصرارهم على إسماع أصواتهم المحتجة للعالم كله. لكن يوم التاسع من كانون الثاني/يناير الماضي شهد حالة من المواجهات بين متظاهرين ورجال الدرك، تميزت بعنف لم تشهده عمان منذ أن بدأت موجة الاحتجاجات، مواجهات دامية، وقنابل مسيلة للدموع، وتنكيل، ليس بالمتظاهرين فقط بل وبصحفيين يقومون بتغطية الحدث، ومنهم مراسل قناة الجزيرة الفضائية ياسر أبو هلالة، الذي اعتدى عليه أكثر من عشرة من رجال الدرك بالضرب، كما أكد النقابي خالد رمضان، أحد المشاركين في التظاهرة، الذي كان شاهد عيان على ما جرى للزميل أبو هلالة. رمضان قال: «توجهت إليهم وسألتهم: هل تعرفون هذا الذي تضربونه؟ فأجابوني: نعم، هذا مراسل الجزيرة».

أوساط حكومية حاولت تصوير ما جرى وكأنه حالة استثنائية ومعزولة. الرائد أحمد أبو حماد، الناطق الإعلامي باسم جهاز الدرك، قال إن استخدام القوة في حق المتظاهرين كان الحل الأخير، «لقد قمنا بضبط النفس أربع ساعات كاملة، تعرضت فيها قواتنا لشتى صنوف الإهانة، وصلت حدّ توجيه الشتائم وإلقاء الأحذية والبصل علينا، وقد قمنا بالرد عندما لم يعد هناك مجال لمزيد من السكوت»، يدلل أبو حماد على ذلك بقوله إن قوات الدرك تعاملت في الأسبوعين الماضيين مع ما يقارب 600 تظاهرة، ولم يحدث ما حدث في الرابية.

عدد كبير من المتظاهرين أقروا بوجود تجاوزات، لكنهم أجمعوا على أنها كانت محدودة، وأن رد الفعل عليها لم يكن أبداً متناسباً معها. رامي، أحد المشتركين في التظاهرة، طلب مثل كثير ممن التقتهم «ے» عدم ذكر اسم عائلته خوفاً من العواقب، قال إنه تلقى العديد من الضربات في أنحاء متفرقة من جسمه بالهراوات، والركل بالأرجل، وأضاف إنه «بين فترة وأخرى كانت زجاجة ماء أو حذاء يلقى على قوات الدرك، ومثل هذه الممارسة لا تشكل تهديداً فعلياً لرجال محصنين بالخوذ والدروع والهراوات».

الأمر نفسه أكده يزن، الذي قال إنه عندما بدأت الصدامات قرر الانسحاب والعودة إلى منزله، لكن مجموعة من الدرك أوقفته وبدأت في ضربه بالهراوات، وكانت النتيجة بحسب التقرير الطبي الذي حصل عليه تفيد بإصابته بجرحين في الرأس؛ 10سم و6 سم.

هشام البستاني، طبيب أسنان وناشط نقابي، أصيب بإغماء نتيجة استنشاقه الغاز المسيل للدموع، كما أن رجل أحد أصدقائه كسرت، على حدّ قوله.

غفار، قال إنه شاهد عدداً من المصابين في حالة إغماء نتيجة استنشاق الغاز المسيل للدموع، ممدين على الأرض، مؤكداً أن هناك من داسهم أثناء التدافع.

أما عماد أبو السمن، فيقول إنه شاهد رجلاً من الدرك يمنع سيارة تابعة للهلال الأحمر الأردني من نقل شاب مصاب حاول رفاقه الذي يحملونه نقله إليها.

بحسب متظاهرين، فإن الفتيات نلن نصيبهن أيضاً من الضرب. يقول حكيم التميمي إن مشادة بالأيدي نشبت بين دركي وأحد الشبان، بعد أن قام الدركي بضرب الفتاة بهراوة، وهو أمر نفاه أبو حماد الذي أكد أن قوة من الشرطة النسائية أنزلت إلى الموقع لمنع أي احتكاك بين النساء ورجال الأمن. لكن أبو السمن قال إن الشرطة النسائية غادرت الموقع بمجرد نشوب المواجهات.

محمد الخطيب، الناطق الإعلامي لمديرية الأمن العام يقول إنه حتى تاريخه، لم يتقدم أي شخص بشكوى إلى أي مركز أمني، الأمر الذي يفسره رامي بقوله: «لا أجرؤ على التقدم بشكوى بشكل فردي، ولا أعتقد أن أحدا سيجرؤ. سنحاول أن ننسق جهودنا لنتقدم بشكوى جماعية، وسترفع لإحدى منظمات حقوق الإنسان».

المشاركون في التظاهرة يقولون إن الأمر لم يقف عند حد الضرب وإلقاء الغازات المسيلة للدموع، بل تعداه إلى استخدام الشتائم البذيئة من قبل الدرك، فبحسب البستاني «كان رجال الدرك يوجهون إلى المتظاهرين شتائم بذيئة جداً تمس أخواتهم وأمهاتهم»، وهو ما أكده أبو السمن: «لقد شهدت الموقف بنفسي، دركي يتوجه إلى الفتيات المشتركات في التظاهرة ويصفهن بصفات بذيئة».

المتظاهرون الذين التقتهم "ے" أجمعوا على أن سلوك رجال الدرك كان عدائياً، مشحوناً، الأمر الذي أكد عليه أبو هلالة في مقالة له نشرها في صحيفة الغد يوم 13 كانون الثاني/يناير الجاري بقوله إن إلقاء القنابل المسيلة للدموع يحدث في النرويج وبريطانيا لكن «ما لا يحدث هو السلوك العدواني».

دفع هذا كثيرين إلى التساؤل عن نوعية التدريب الذي تلقته هذه القوات ونوع التعبئة النفسية التي مورست عليها، وعما إذا كان هؤلاء يدربون على التعاطي مع المتظاهرين بصفتهم مواطنين يمتلكون حقوقاً دستورية للتعبير عن آرائهم، أو يتدربون على النقيض من ذلك، على التعامل مع المواطنين بوصفهم أعداء للوطن. البستاني، الذي يقول إن الضرب كان عشوائياً وطاول أشخاصاً كانوا يقفون على جوانب الطريق ولم يشتركوا في التظاهرة، يطالب بمحاسبة المسؤولين: «رجال الدرك يجب أن يساءلوا عن التصرفات المسيئة التي ارتكبوها، لكن المسؤولين عنهم يجب أن يساءلوا أيضاً عن نوع التدريب الذي وفروه لهم، وجعلهم يتصرفون بالعدائية المخيفة التي تصرفوا بها».

مصدر عرف نفسه بأنه على معرفة بالظروف التي يخدم فيها أفراد قوات الدرك، قدم تفسيراً للشحنة الانفعالية التي تعاملت بها هذه القوات مع المواطنين. وفق المصدر، فإن جهاز الدرك الذي تم فصله في العام 2007 عن جهاز الأمن العام، يضم في صفوفه أفراداً بمستوى تعليمي منخفض (توجيهي راسب). ويشير إلى أن الجهاز، لدى تبعيته سابقاً للأمن العام، كان يتيح للفرد أن يخدم فيه بضع سنوات ثم ينتقل إلى جهاز آخر من أجهزة الأمن العام (بقليل من الواسطة). هذه الإمكانية انتهت بفصل الجهاز عن الأمن العام، وهو ما رتب عبئاً نفسياً كبيراً على أفراده، الذين وجدوا أنفسهم مضطرين لإمضاء كل سنوات خدمتهم في جهاز صعب.

ويضيف نفس المصدر أن رجال الدرك ومنذ بدء القصف على غزة، رابطوا داخل مدرعاتهم في حالة استنفار كاملة في منطقة السفارة، ولم يتمكنوا من نيل فسحة من الوقت للعودة إلى منازلهم للالتقاء بذويهم، إذ كانوا يعودون إلى المعسكر، وهو ما ألقى على وضعهم النفسي مزيداً من الضغوط، وبخاصة مع عبء الملابس التي يرتدونها وقوامها سترة واقية من الرصاص يصل وزنها إلى عشرة كيلوغرامات، إضافة إلى الخوذة والدرع والبسطار، وكلها تشكل وزناً إضافياً ثقيلاً يحمله الشخص على كاهله طوال مدة الاستنفار الطويلة التي بدت بلا نهاية، ما جعل شعوراً يتشكل لديهم بأن المتظاهرين هم السبب في الوضع الصعب الذي يعيشونه.

أبو حماد الذي ينفي تماما تلفظ أي من قوات الدرك بكلمات بذيئة، لا يرى مشكلة في التدريبات التي تتلقاها هذه القوات، ويرى أنهم في النهاية «أبناء الوطن، ومارسوا واجبهم في الحفاظ على الأمن الذي أكد الملك أكثر من مرة على أنه خط أحمر».

صبري ربيحات، وزير التنمية السابق، وأحد الذين قاموا بالتدريب سابقاً في كلية الشرطة، لا يرى أي خلل في التدريبات التي تتلقاها هذه القوات، وهو يعتقد أن ما حدث سببه أن المكان الذي دارت فيه الأحداث يمثل «نقطة حرجة»، إذ كان في منطقة السفارة الإسرائيلية، والدليل أن التظاهرات التي حدثت في أماكن بعيدة عن المنطقة لم تقع فيها احتكاكات»، وهو ما لم يكن مقنعاً للمتظاهرين الذين التقتهم «ے»، الذين أكدوا أن ذلك لا يبرر قمع التظاهرة بهذه الدرجة من العنف، حيث كانت على بعد كيلومتر وأكثر من السفارة، ولم تكن بالتالي قريبة بما يكفي لتشكل تهديداً لها.

ربيحات يرى أن التعبير يظل حقاً مشروعاً ما دام في دائرة الاحتجاج السلمي، الأمر الذي تحقق في الاعتصام الذي استمر للأسبوعين الماضيين، ولكنه «عندما يتحول إلى فعل تخريبي يجب أن تتم مواجهته».

سلمية الاحتجاج ليست نقطة خلاف بين المعتصمين والحكومة، وهو ما جعل الاعتصام في خيمة الرابية يستمر لأسبوعين كاملين، ذلك أن هدف المعتصمين بحسب أبو السمن، لم يكن «طرد السفير الإسرائيلي بأيديهم وإنما خلق حالة تضغط على الحكومة لتغير من توجهاتها السياسية».

العنف الذي شهدته الرابية أثار سؤالاً حول التوجه الحقيقي للسلطة السياسية، هل تعكسه الطريقة التي تعاملت بها مع المتظاهرين طيلة الأسبوعين الماضيين، أم الطريقة التي تم التعامل بها مع متظاهري الرابية؟.

البستاني يعتقد أن التوجه الحقيقي للسلطة تبدى في مواجهات الرابية، ذلك أنه «ليست هناك ديمقراطية حقيقية، وأن تعامل السلطة مع التظاهرات في الأسبوعين الماضيين كان لعبة سياسية هدفها احتواء الشارع، لكن صبرها في النهاية نفد كما نفد في العام 2000 عندما قمعت التظاهرات المتضامنة مع الانتفاضة الفلسطينية، وفي العام 2002، في التظاهرات التي اندلعت احتجاجاً على جرائم المحتل الإسرائيلي في مخيم جنين».

قمع تظاهرة الرابية: قصة فشل رسمي في التعامل
 
15-Jan-2009
 
العدد 59