العدد 58 - أردني
 

جورج جقمان*

يواجه الفلسطينيون ثلاث معضلات على الأقل، واحدة منها فقط تتعلق بالهجوم الدموي على قطاع غزة وتبعاته المباشرة. وفي الأمد الأقصر سيواجه الفلسطينيون معضلتان أخريان: معادلة سلطة ومقاومة وما إذا كان في الإمكان الجمع بينهما، ومعادلة سلطة ومسار تفاوضي متعثر أو من دون أجل مسمى.

ما يجري حاليا في غزة هو مفاوضات دامية حول شروط تهدئة جديدة كل يسعى لتحسينها لصالحه. الهدف المعلن للحرب على غزة من منظور إسرائيل هو إيقاف الصواريخ ومن ثم فتح المعابر من إسرائيل لغزة لغرض إيصال الحاجات الأساسية. وبخلاف ما ظهر في وسائل الإعلام الغربية وعلى لسان الناطقين الرسميين الأميركيين، فإن إسرائيل هي التي خرقت التهدئة في الرابع من تشرين الثاني / نوفمبر الماضي، عندما دخل الجيش الإسرائيلي إلى غزة وقتل ستة من الناشطين. وكان رد حماس متوقعا، وبعد ذلك استمر التراشق إلى أن جاء تصعيد إسرائيل بالقصف الجوي المتواصل.

الكثير يتوقف على شروط التهدئة الجديدة، وهي النهاية المتوقعة للحرب على غزة. موقف إسرائيل المعلن، إيقاف الصواريخ، يسهل تحقيقه نظريا إن كان هناك مقابل من منظور حماس. ويوجد اعتبار آخر لدى باراك وليفنى بخاصة، وهو الحاجة لإبراز شروط التهدئة كإنجاز لأغراض انتخابية، فمن الواضح أن بنيامين نتانياهو مازال ينتظر النتائج لعله يجد ثغرة يفتح منها النار على غريميه في الانتخابات المقبلة. موقف حماس المعلن هو وقف العدوان، أي التوصل إلى وقف لإطلاق النار، وهو تحصيل حاصل لأي تهدئة جديدة وفتح المعابر بما في ذلك معبر رفح.

لقد حققت حماس إنجازا مرحليا من خلال تعاطف الرأي العام العربي والإسلامي معها، والرأي العام الفلسطيني أيضا، الأمر الذي وضع السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية في موقف الدفاع، لكن الإنجاز الأهم هو فتح معبر رفح وليس فقط المعابر الأخرى من إسرائيل وإليها. فالتهدئة مقابل فتح المعابر من إسرائيل ستكون "تهدئة مقابل غذاء"، وهي المعادلة نفسها التي حاول وزير الدفاع الإسرائيلي فرضها عليها خلال الشهور الماضية.

إن علاقة حماس بالسلطة الفلسطينية في الضفة الغربية في خضم المعركة الحالية ظهرت كالتالي: أي مكسب لطرف هو خسارة للطرف الآخر وبالعكس، فإذا خرجت حماس بإنجاز واضح من هذا العدوان، فسوف تضعف السلطة الفلسطينية أمام الرأي العام الفلسطيني والعربي، وإذا خرجت حماس بخسارة سياسية واضحة فإن هذا سيعزز موقف السلطة الفلسطينية أمام الرأي العام الفلسطيني على الأقل.

لكن حماس والسلطة الفلسطينية أيضا ستواجهان معضلتين أخريين خلال العام المقبل. فبمعزل عن شروط التهدئة المقبلة، يكمن السؤال المباشر عما إذا كان اتفاق التهدئة سيكون لمدة محددة سلفا، أم إنها ستكون مفتوحة؟ ويبدو الآن أن من المتعذر على حماس قبول هدنة لا تنتهي بتاريخ محدد، حتى لو كانت بشروط مواتية من وجهة نظرها، فالهدنة ذات الأجل غير المسمى تعني عمليا التخلي عن المقاومة من قطاع غزة على الأقل.

هذه هي الوجهة الثانية لمعادلة سلطة ومقاومة، فقد اختارت حماس الحكم في غزة، ولكن من الجلي أن إسرائيل والولايات المتحدة لن تقبلا بأن تكون سلطة ومقاومة في الوقت نفسه. لقد جرب هذه المعادلة الرئيس الراحل ياسر عرفات خلال الانتفاضة الثانية، فتم حصاره واستهدافه من قبل إسرائيل، فإسرائيل مازالت تنظر لأي سلطة فلسطينية، سواء كانت فتح أو حماس، من منظور أمني، أي توفير الأمن لها وإخماد أي مقاومة ضدها. ولكن في المقابل، لا يوجد مسار سياسي يؤدي إلى حل الدولتين بالفهم العربي والفلسطيني له، أي ليس دولة ضمن الجدار العازل ومن دون القدس. ولن تقبل إسرائيل أي مقاومة من قبل السلطة الفلسطينية مهما كانت سلمية، فمثلا، عندما قام رئيس الوزراء سلام فياض بتوجيه رسالة إلى عدة دول أوروبية من بداية العام طالبا عدم منح إسرائيل ميزات إضافية، كما كانت تسعى، إلى أن يتم وقف الاستيطان، أوقفت إسرائيل تحويل المبالغ المستحقة للسلطة الفلسطينية من الضرائب كرد فعل على هذه الخطوة.

هذه هي معضلة حماس على المدى الأطول، والتي لم تضطر لمواجهتها حتى الآن. أي أنها ستواجهها عندما تتضح شروط التهدئة، وما إذا كان وقف إطلاق النار له مدة محددة ومعروفة، أو إنه وقف إطلاق نار دائم.

في المقابل فإن معضلة السلطة الفلسطينية لا تقل خطورة عن معضلة حماس. فقد راهن الرئيس محمود عباس على المفاوضات كآلية وحيدة للتقدم على المسار السياسي. وكان موقفه واضحا وصريحا منذ بداية الانتفاضة الثانية، إذ صرح أكثر من مرة إنه ضد "عسكرة" الانتفاضة. وتم انتخابه في كانون الثاني / يناير 2005 بناء على هذا البرنامج المعلن، أي أن الجمهور أراد أن يعطيه الفرصة ليرى ما يمكن تحقيقه بطرق غير المقاومة المسلحة. ومر عام كامل بين انتخابه وحصول حماس على أغلبية في المجلس التشريعي الفلسطيني في الانتخابات التي تمت في كانون الثاني/ يناير 2006. في الأثناء لم تجر أية مفاوضات خلال ذلك العام، ودأب القادة الإسرائيليون بوصفه بالرئيس الضعيف، ولكن الحقائق واضحة؛ فقوة الرئيس أبو مازن أو ضعفه مرهون بإنجاز ما. أما على صعيد المفاوضات أو على أي صعيد آخر، مثلا الإفراج عن عدد كبير من المعتقلين السياسيين. لقد قامت إسرائيل بإضعاف أبو مازن ولم تقدم له شيئا، وبقيت الإدارة الأميركية في موقع المراقب غير الفاعل إلى حين انعقاد مؤتمر أنابوليس في العام 2007.

ورغم تصريحات الرئيس بوش حول أمله وتوقعاته بقيام دولة فلسطينية مع نهاية فترة عهده، فقد انتهى مسار أنابوليس من دون نتائج. والآن، مازال الجميع ينتظر نتائج الانتخابات الإسرائيلية في شهر شباط/فبراير المقبل، لعل في الإمكان العودة إلى مسار المفاوضات مرة أخرى .

هنا تكمن معضلة السلطة الفلسطينية قياسا على تجربة مفاوضات أنابوليس. تاريخ محدد لنهاية المفاوضات يسبق الاتفاق على مرجعيات المفاوضات؛ القرارات الدولية المتعلقة بالحدود والقدس والمستوطنات من بين قرارات أخرى. لن تصل هذه المفاوضات إلى نتيجة يمكن أن تكون مقبولة للرأي العام الفلسطيني أو العربي.

في المقابل فإن مفاوضات لأجل غير مسمى دون نتائج ملموسة توضح بجلاء التقدم الحاصل، مثل: وقف التوسع في الاستيطان، الذي يرى البعض أنه حسم موضوع حل الدولتين، أي أن هذا الحل أصبح متعذرا. فإن مفاوضات من هذا النوع ستستمر في إضعاف السلطة الفلسطينية، وستقوض، في نهاية الأمر، شرعية وجودها. فلم يتصور الفلسطينيون أن هدف مسار أوسلو هو إنشاء سلطة فلسطينية تعمل بوصفها بلدية كبرى لإدارة شؤون السكان كنهاية للمسار السياسي، فعاجلا أم آجلا على السلطة الفلسطينية اتخاذ قرارات جذرية وحاسمة، كما يتعين الآن على حماس اتخاذ مثل هذه القرارات حول التهدئة المؤقتة أو الدائمة.

* محلل سياسي،

أستاذ الفلسفة السياسية في جامعة بير زيت

الفلسطينيون ومعضلاتهم الثلاث الهجوم على غزة: مفاوضات دامية حول شروط جديدة للتهدئة
 
08-Jan-2009
 
العدد 58