العدد 57 - اقليمي
 

تحسين يقين

القدس - لم يحصد الفلسطينيون مجرد فشل سياسي، سواء في الوصول بالمفاوضات مع الاحتلال إلى أفق مسدود، أو إخفاق الحوار الوطني في تشكيل حكومة وحدة وطنية تنهي الخلاف بين أكبر فصيلين: فتح وحماس، بل ها هم يقطفون ثمراً مراً. دمهم المسفوك في شوارع غزة تحت بصر العالم وسمعه، شاهد على ذلك في ظل صمت عربي وتواطؤ دولي.

لم تكن تصريحات الساسة الإسرائيليين المهددة بسحق حركة حماس وفصائل المقاومة مجرد مناورة، فعلى أرض غزة نفذت منذ ظهيرة الأحد الماضي عملية التصفية هذه، التي تجاوزت المقاومين إلى الإبادة الشاملة، ففي ساعات قليلة من اليوم الأول قتلت القوات الغازية من الجو العشرات، وجرحت المئات.

الساسة الإسرائيليون غير الرسميين ناجحون بامتياز في عمليات القتل، فهم يعبدون بتلك الدماء طريق الوصول إلى كراسي الحكم في تل أبيب، أكان ذلك من تحالف حزب كاديما اليميني الوسط بقيادة ليفني التي تشغل منصب وزيرة الخارجية في حكومة تسيير الأعمال لحين إجراء الانتخابات المبكرة في شباط المقبل، وحزب العمل يسار الوسط بقيادة إيهود باراك الذي ظل يشغل منصب وزير الدفاع، يؤازرهما رئيس الوزراء الذي خلع نفسه أيهود أولمرت. أو كان ذلك من حزب الليكود بزعامة بنيامين نتنياهو الذي ظل يزاود في تصريحاته السياسية الدموية على كل من ليفني وباراك، حتى بدأت المجزرة.

ورغم توقع الضربة العسكرية، إلا أن اجتياح غزة شكل مفاجأة لحركة حماس والسلطة الوطنية.

مفاجأة الضربة جاءت بعد افتراض حركة حماس وحركات المقاومة في غزة، أن الاحتلال سيكتفي باجتياحات جزئية، أو قصف مقرات هنا أو هناك، أو قصف لسيارة مدنية أو مقاومين على الحدود، ولم يتوقعوا أن تقوم 60 مقاتلة إسرائيلية من نوع ف 16 مدعومة بطائرات مروحية وطائرات استطلاع بضرب عشرات المواقع دفعة واحدة، من دون أي تحذير، وأن تعلن حكومة تل أبيب على ألسنة كبار الشخصيات السياسية والعسكرية: أولمرت ووزير دفاعه باراك ورئيس الأركان جابي أشكنازي، أن العمليات ستستمر لفترة طويلة حتى يتم تحقيق أهدافها.

من دلالات المفاجأة أيضا عدم إخلاء حركة حماس التي استولت على السلطة في قطاع غزة، للمقرات الشرطية والأمنية، حيث طالت ضربات إسرائيل عدداً من كبار ضباط الأجهزة الأمنية في غزة، في وقت كانت حماس تتوقع فيه استمرار مفاوضاتها مع إسرائيل عبر مصر، لتجديد عقد تهدئة أخرى، وهو ما طغى على السطح الإعلامي والسياسي، فلم تأخذ الحركة التهديدات بما تستحقه من اهتمام، واندفعت إلى المناورة وإيهام النفس أن تل أبيب ستطالب بتهدئة جديدة. وكل ما توقعته الحركة هو تجديد عقد تهدئة آخر بشروط محسنة، لكن سلطة الاحتلال حسمت أمرها على الأرض، ومن الجو أولا.

يؤكد ذلك المحلل السياسي هاني حبيب المقيم في غزة، والذي يرى أن إسرائيل، «اعتمدت على خدعة كان ينبغي على أصحاب القرار في قطاع غزة التنبه لها، فقد سربت وسائل الإعلام الإسرائيلية، أن هناك 48 ساعة أمام حركة حماس، كي تؤكد سيطرتها على عدم إطلاق القذائف والصواريخ، من جانبها أو من جانب الفصائل الأخرى، قبل أن تبدأ قوات الاحتلال بعمليتها العسكرية الواسعة».

يضيف حبيب أن هذا التسريب المتعمد، كان يهدف إلى طمأنة أصحاب القرار في القطاع، أن هذه المجزرة، لن تحدث خلال 48 ساعة، إلا أن ذلك لا يبرر عدم اتخاذ وسائل الحيطة والحذر، بما في ذلك عدم التجمع لدى الأجهزة الأمنية في القطاع، وانتشار القوات العسكرية وشبه العسكرية، وتأمين المستشفيات بقدر الإمكان بحاجاتها الضرورية، وإيجاد ملاجئ أولية.

السلطة الوطنية بدورها، لم تكن تتوقع أن تتم العملية على هذا النطاق الواسع، بخاصة أنها لم تنفض يدها تماماً من الحوار الوطني مع حماس.

لماذا تأخرت إسرائيل في العملية؟

يرى المحلل السياسي طلال عوكل، أن تأخر إسرائيل في التعامل القاسي والحاسم مع الحالة التي نشأت في قطاع غزة، كان بسبب أن لها مصلحة حقيقية في إبقاء حالة الانقسام، بل وتعميق هذه الحالة وتحويلها إلى انفصال تام، وبالتالي التملص من مسؤولياتها كدولة احتلال عن سكان القطاع في ما يحتاجونه على مختلف المستويات الحقوقية والقانونية والسياسية والإنسانية.

أما التوقيت، فقد فرضته بحسب عوكل، «حاجة أحزاب الائتلاف الإسرائيلي الحاكم لاستخدام الدم الفلسطيني في ميدان المزايدات الانتخابية، وبغرض تحسين مواقفها المتردية. ولأن صوت المعارضة اليمينية التي يتزعمها نتنياهو كان أكثر علواً وتشدداً وتطرفاً، فإن أطراف الائتلاف الإسرائيلي تعمدت أن يطغى سلوكها المتطرف على تطرف اليمين، حتى تترك انطباعات قوية لدى الناخب الإسرائيلي الذي يتميز أغلبه بالتطرف».

طي صفحة حركة حماس

في الأسابيع الأخيرة حتى قبل انتهاء التهدئة مع المقاومة، نصح كتاب إسرائيليون حكومتهم بعدم إعادة احتلال غزة، ويبدو أن الحكومة قبلت النصيحة على طريقتها بشكل جزئي وتدريجي، حيث تقوم العملية العسكرية على إضعاف الخصم الفلسطيني من الجو واستنزافه، ثم البدء بعملية برية، مكررة ما صنعته الولايات المتحدة في العراق، والفرق أن إسرائيل بعد استهداف قيادة حركة حماس، لن تظل في غزة، بل ستنسحب مخلفة وراءها أنقاضاً وجثثاً ودماراً.

حكومة إسرائيل أعلنت أنها أعدت لهذه الحرب منذ ستة أشهر، وأن قرار الحرب اتخذ قبل شهر واحد، ما يعني أنها (على عادة العصابات الصهيونية قبل تأسيس دولة إسرائيل عام 1948) تعلن التهدئة باللسان في حين تعد لحرب مدمرة تحرق الأخضر واليابس. بل إنها تخرق الهدنة كلما سنح لها ذلك، وقتل وجرح العشرات خلال الأشهر الستة السابقة من الهدنة، دليل إضافي على النية الإسرائيلية بعدم التزام أي هدنة أو اتفاقية، وكل ما في الأمر أنها تكسب وقتاً، تمنح فيه استخباراتها العسكرية وقتاً كافياً للتجسس ورصد حركات المقاومة على الأرض.

صيف 2006 ليس شتاء 2008، فمن خلال الحجم العسكري، واستدعاء الحكومة لجنود الاحتياط، هناك إصرار إسرائيلي على طي صفحة حركة حماس بالقوة، لتأمين خاصرتها الجنوبية، انطلاقا من أن اللغة الحربية هي اللغة الأثيرة لدى عسكرييها وساستها، الذين أثبتوا خلال المفاوضات عدم استعدادهم لدفع أي استحقاقات لعملية السلام، وكل ما يريدون دفعه هو ترك الفلسطينيين في أحسن الأحوال على قيد الحياة فقط، من خلال خطة تنمية يسوقها رئيس المعارضة اليميني بنيامين نتنياهو، الذي كان أكثر صراحة في قضايا الحل النهائي، مقترباً من تصريحات أرئيل شارون، عن 50 في المئة من أرض الضفة الغربية، وأنه إذا أراد الفلسطينيون تسميتها دولة فلا مانع لديه..

يبقى السؤال المطروح: ما خيار إسرائيل إذا فشلت في سحق حركة حماس في قطاع غزة، وما هو بديلها السياسي؟.

حتى إذا نجحت في إنهاء حركة حماس عسكرياً، فما ضمانة أن لا تعود من جديد، بخاصة إذا حازت الحركة تعاطف الجمهور الفلسطيني وعادت إلى الحكم من باب صناديق الاقتراع وليس عبر الحسم العسكري؟.

أهداف إسرائيلية

من جهته، يرى الكاتب والمحلل السياسي سميح شبيب بأن ما ترمي إليه إسرائيل، «هو تسديد ضربات موجعة ومؤثرة ضد حماس والمقاومة الفلسطينية في القطاع، لدرجة إضعاف المقاومة، وبالتالي إرغامها على القبول بهدنة وفقاً للاشتراطات الإسرائيلية، وبمعنى أدق، وقف الصواريخ وقذائف الهاون وغيرها من غزة تجاه إسرائيل».

يؤكد شبيب: «ما ترمي إليه إسرائيل هو الوصول للهدنة، والهدنة التي تراها تتطلب تنسيقا قابلا للتوسع والترسيخ، وبالتالي فإن هدف العملية المباشر هو: هدنة جديدة، وفتح المعابر، والتنسيق الأمني، وستتدحرج هذه العملية وصولاً لتحقيق هذه النقاط الثلاث».

يضيف شبيب أن تحقيق هذا الهدف في التفكير الإسرائيلي، سيؤدي في المستقبل، لزيادة تفرد حماس في حكم غزة، ما يجعل تقسيم الجغرافيا السياسية الفلسطينية أمراً واقعاً، مما يضعف الممكنات الفلسطينية، سواء أكان على صعيد السلطة والرئاسة من جهة، أم على صعيد حماس من جهة أخرى.

فلسطينياً

في الوقت الذي اصطفت فيه أحزاب الائتلاف الحكومي وأحزاب المعارضة وراء القرار العسكري، مؤجلة لغة النزاع ما بينها إلى ما بعد الانتهاء من العمليات العسكرية في غزة، فإن الفلسطينيين لم يفعلوا أمراً مماثلاُ.

أبو مازن الذي لم يتبق لفترته الرئاسية سوى أيام، يحتاج للدعمين الفلسطيني والعربي لتأمين تمديد الرئاسة في ظل الانقسام، وعدم اعتراف حركة حماس المسؤولية عن الحكم في قطاع غزة بشرعيته بعد التاسع من كانون الثاني 2008، والذي أخفق في المفاوضات مع إسرائيل، وأخفق في الوصول إلى مصالحة وطنية، وأخفق على مستوى حركة فتح التي يتزعمها، بحيث لم يستطع عقد مؤتمرها السادس خلال العام 2008 كما وعد، سيجد نفسه في وضع صعب، فلا هو براض عما يحدث في قطاع غزة، ولا هو بمتقبل الحسم العسكري الإسرائيلي ولا هو يرغب أبدا بدخول القطاع وقد تدمر على أيدي الغزاة.

رغم ضمان الرئيس الدعم العربي لتمديد فترة الرئاسة، فإنه على الأرجح- في حال خرجت حركة حماس معافاة من هذه العملية الواسعة التي تستهدف طيها من أرض القطاع-ألا تقبل الحركة بالتمديد، حيث ستعلن الحمساوي أحمد بحر النائب الأول لرئيس المجلس التشريعي رئيسا لفترة 40 يوما قابلة للتجديد.

لقد كان تصريح وزير الخارجية ابو الغيط بأنه سبق أن حذر حماس من هذه النتيجة، دليلا استغله مناوئون للسياسة المصرية في المنطقة، مستعينين بواقعة زيارة تسيفي ليفني للقاهرة وإطلاقها تصريحات عن قرب إنهاء حركة حماس.

الأكاديمي الفلسطيني في جامعة كامبريج خالد الحروب، تحدث عن حالة العجز العربي الرسمي والشعبي، محذرا من تفعيل أدوار إقليمية على حساب الدور القومي، حيث رأى أن انكشاف العجز الرسمي الكبير يتكرر مُضافاً إليه العجز الشعبي المحصور بتظاهرة صغيرة هنا، أو احتجاج هناك. وليس من جديد في هذا الانكشاف الذي يعاود الظهور بمزاج مُمل عند مواجهة أي حدث من العيار الثقيل، إقليمياً أو عالمياً.

يرى الحروب أن إسرائيل عندما توغل في الدم الفلسطيني بمستوى الفظاعة الذي شاهده العالم على الشاشات من دون أن تقيم للدول العربية جميعاً، سواء المُتعاهدة معها باتفاقيات سلام، أو التي ما زالت العلاقة معها، نظرياً، علاقة حرب، فإن تلك الفظاعة تهين الجميع وتستخف بهم من دون استثناء. وهذا يكرس النظرة الدونية للعرب وللقدرة العربية على المستوى الأعم، ليس من قبل إسرائيل فحسب، بل الأطراف الإقليمية الأخرى مثل إيران وتركيا، فضلا عن الأطراف الدولية على الوجه الأعم.

الوقت مناسب لإعادة اللحمة

هكذا، سيدخل الفلسطينيون العام الجديد وهم في حال أسوأ كثيرا من العامين السابقين، ولربما كان بإمكانهم لو كانوا متحدين معا أن يقطعوا على دولة الاحتلال الكثير من مخططاتها، فهل ستشهد الأيام القادمة مصالحة وطنية، أم إنه لن يظل هناك أصلا ضرورة لهذه المصالحة؟

العملية الإسرائيلية الواسعة على غزة شكلت منطلقا لتفعيل مطالبة كتّاب الرأي والمحللين والساسة للوحدة الوطنية، وعدم الزج بالقضية الفلسطينية في الخلافات العربية والإقليمية.

الكاتب علي الخليلي يرى أنه «ليس للفلسطينيين في هذا المفصل التاريخي المعتم سوى باب واحد، هو التحرك فورا نحو المصالحة الوطنية القادرة على استلهام تلك العبرة التي أهملتها (حماس)، ثم البناء عليها ببرنامج قرارنا المستقل القائم على استقلالية منظمة التحرير، بعيدا عن الخلافات العربية والإقليمية التي تحاصرنا في هذه المرحلة، فوق ما نحن فيه من حصار إسرائيلي».

كما طالب الناطق الإعلامي باسم حركة فتح، أحمد عبد الرحمن، في أحاديثه الإعلامية، بالتقاط الفرصة المناسبة للمصالحة الفلسطينية، داعيا حركة حماس للمبادرة بفتح صفحة جديدة. وشدد على ذلك أيضاً عضو تنفيذية منظمة التحرير صالح رأفت الذي طالب المتنازعين لتجاوز الخلافات. أما عباس زكي عضو اللجنة المركزية والسفير الفلسطيني في بيروت فقد طالب بشدة باستغلال الوقت المناسب للوحدة.

الدم طريق الساسة الإسرائيليين لكسب قلوب الناخبين
 
01-Jan-2009
 
العدد 57