العدد 57 - أردني
 

محمود الريماوي

يستريح الإسرائيليون السبت، ويعكفون على طقوسهم، فيما الجنود بأمرة قادتهم يلتمسون الراحة بشن الحرب على غير اليهود. بهذا اختارت المؤسسة الإسرائيلية، السبتَ الماضي 27 كانون الأول/ديسمبر، موعداً لإطلاق حرب جديدة على قطاع غزة هذه المرة.. وهو موعد ملائم مع دخول الغرب في يومَي إجازة، هما جزء من احتفالات عيد الميلاد والاستعداد لرأس السنة الميلادية.

رغم وحشيته الفائقة وما اتسم به من مفاجأة آنية، فقد بدا قصف قطاع غزة سلوكاً نمطياً يعيد إلى الأذهان وقائع سابقة، أرساها شارون الذاهب في غيبوبته منذ نحو ثلاث سنوات. وها هم تلامذةٌ نجباء للسفاح يبرهنون على وفائهم لأستاذهم.

في ربيع 2002 قام شارون بتجريد حملة تصفية وتدمير لسائر مقرات السلطة ومرافقها في الضفة الغربية، انطلاقاً من رام الله، العاصمة الإدارية والسياسية المؤقتة للسلطة. في اليوم التالي لانفضاض مؤتمر القمة العربية في بيروت، التي شهدت منع بث كلمة للرئيس الراحل ياسر عرفات، قامت طائرات ودبابات إسرائيلية بدكّ مواقع السلطة، واستهدفت على الخصوص رجال الشرطة، وتدمير أجزاء واسعة لموقع المقاطعة (الرئاسة).

قمة بيروت أطلقت حينذاك قبل ست سنوات ما عُرفت بمبادرة السلام العربية. في الأيام الأخيرة التي سبقت «الرصاص المسكوب» على غزة، تتالت تصريحات لبيريز وليفني وأولمرت تبارك مبادرة السلام «القديمة». الاجتياح جاء برهاناً على الصدقية الإسرائيلية واحترام عقل العالم! كما جاء تكراراً لواقعة تدمير مقرات السلطة التي انتهت بحصار مديد لعرفات، أول من شقَّ الطريق نحو السلام.

في صيف 2006، شنت تل أبيب حرباً تدميرية واسعة على جنوب لبنان ومواقع في العاصمة اللبنانية، ولم يبتعد أمين عام حزب الله السيد حسن نصر الله، عن الحقيقة، حين وصف الأحد الماضي، الحربَ على غزة بأنها تكرار لحرب تموز. وذلك من حيث قوة النيران الكثيفة والتدمير المنهجي لمرافق مدنية بمقاتلات جوية متفوقة، واستهداف المدنيين كما الناشطين سواء بسواء.

لا جديد، إذن، تحت سماء الساسة الإسرائيليين، عدا ظروف ناشئة وحيثيات راهنة. ائتلاف ليفني وباراك الحكومي (كاديما والعمل) يستعد لانتخابات مبكرة بعد ستة أسابيع. قتْلُ المزيد من الفلسطينيين وسلبهم أسباب الحياة، يأسر قلوب كثرة من الإسرائيليين، ويحدد لمن يقترعون. هناك قتَلة بلا عدد في الجيش، وبخاصة في مستوياته المتوسطة والعليا، وهناك آكلو جثث يتزايد عددهم في أوساط الجمهور، ممن يتغذون ليل نهار على ثقافة عنصرية. الاستثمار في الدم الفلسطيني يحقق نتائج أفضل من الاستثمار في الخطابات التلفزيونية، ومن الاستثمار في بورصة تل بيب وأي سوق مالية أخرى، فلا يبقى للمنافس بنيامين نتنياهو (الليكود) سوى اللغو والاستعراض وتراجع فرص فوزه، مقارنةً بإبداع باراك وليفني في أجواء غزة، وعلى أرضها، وعلى أجساد أطفالها وفتيانها.

في الظرف الدولي، فإن عملية انتقال السلطة في واشنطن بين الرئيسيَن المنتخَب والمنصرف، والغيبوبة السياسية لبوش، دفعت البيت الأبيض لتكرار تصريحات تافهة ولئيمة قديمة، عن الدعوة لتجنيب المدنيين ويلات الحرب، مع تأييد الحرب نفسها. أما أوباما فاختار من جهته «عدم التسرع» بإغضاب الجانبين الإسرائيلي والعربي، وفق نصيحة مستشاريه كما هو بادٍ، فاعتصم بالصمت في أيام إجازته.

دولياً أيضاً، دعت روسيا، والأمم المتحدة، والاتحاد الأوروبي لوقف فوري لإطلاق النار منذ اليوم الأول للعدوان. الاحتلال لا يُلقي بالاً لهذه الدعوات، فهي على شاكلة الحروب الإسرائيلية: نمطية، ومؤداها إعلامي لا سياسي. بيان مجلس الأمن الذي دعا لوقف إطلاق النار لم يخرج عن هذه النمطية، فأغفل ملاحظة أو تسمية إسرائيل التي تقذف حممها على قطاع يحتشد بمليون ونصف المليون نسمة، على مساحة تقل عن خمسمائة كيلومتر مربع بما يجعله الأكثر كثافة سكانية في العالم، والأكثر عرضة للخسائر البشرية لدى وقوع حروب عليه.

عربياً، فإن إفشال جهود مصر في مصالحة حماس والسلطة، وفي ضمان التهدئة، شكّلَ فرصة لليفني لإطلاق تهديداتها من القاهرة عشية الاجتياح، وقد بدا الرفض المصري للتصعيد الذي عبّر عنه الوزير أبو الغيط غير كافٍ، والخبر الذي نشرته مواقع إلكترونية عربية عن سحب السفير المصري من تل أبيب، تم سحبه.. سحب الخبر، لا سحب السفير العربي في عاصمة العدوان.

من باب الشيء بالشيء يُذكر، فقد رأى رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان، في اليوم الأول للعدوان، أن ما جرى ضد غزة، يمثل إهانة لتركيا كما قال. ذلك أن أولمرت كما ذكر أردوغان، وعدَهُ قبل أسابيع في أنقرة، بأن تل أبيب لن تلجأ للحرب، لكنه فعلها وأهان أنقرة التي أصغت إليه. الدبلوماسية العربية لا تفارق تقليديتها، فهي تخاطب القتَلة باحترام، ويتناسى مطلقو التصريحات أن أقوالهم تبلغ مسامع الرأي العام العربي، تثير حفيظته وتحرك شارعه. حدثَ ذلك بالفعل في غالبية العواصم والمدن العربية، ولم تلقَ تحركات الشارع صدى لدى صانعي القرارات العرب، الذين اكتفوا بمسايرة التنفيس، ولم يفلحوا في كسر الجمود الذي يعتري مواقفهم.

الاتصالات العربية الروتينية قادت لتحديد موعد لاجتماع وزراء الخارجية العرب الأربعاء 30 كانون الأول/ديسمبر في القاهرة. الاجتماع مهدد بأن تطغى عليه الملاسنات: التسويغات وتبرئة الذمة من جهة، والمزايدات المحتفلة بنهر الدم الفلسطيني من جانب ثان. وفي هذه الأثناء، فإن فرصة عقد القمة الطارئة التي دعت إليها قطر تبقى محدودة، وإن كان عقدها محتمَلاً. ما يعيقها خلاف مصر والسعودية ودول عربية أخرى مع سورية، التي تترأس القمة العادية لهذا العام، حول ملفات إقليمية وحول الدور الإيراني. علاوة على عدم استعداد أي طرف لتحمل المسؤوليات المتشابكة لمواجهة العدوان، من حيث دعم شعب فلسطين وشرعية سلطته ووحدته الوطنية، ومن حيث اتخاذ قرارات جدية ذات معنى ومردود على الأرض، من قبيل طلب حماية دولية لغزة والضفة الغربية على السواء، وتفعيل قرارات سابقة، مثل العمل على محاكمة مجرمي الحرب الإسرائيليين. وهو ما بادرت إليه عواصم أوروبية من قبل، ولم تستكمله ولم تسنده لا الأطراف العربية ولا السلطة الفلسطينية، ما يفسرُ ضحالةَ الدبلوماسية العربية وهزال حصادها، رغم تحركات واتصالات لا حصر لها نَشطت بها على مدى الأعوام الماضية.

بينما تزخر الشوارع والمنابر الإعلامية بانفعالات مكتومة ومعلنة، يتواصل العدوان الذي يستنسخ الحرب الأميركية على العراق (2003) بضربات جوية كثيفة تفضي لأرض محروقة تمهّد لاجتياح بري.

هذا السيناريو الماثل للعيان، يهدد بوقوع المزيد من الضحايا في صفوف المدنيين، ويُضعف شوكة حماس وإمساكها بمقاليد الأمور، وقد يأذن بإعادة احتلال القطاع الذي تم الانسحاب منه في العام 2005، لكنه يفتح الباب أمام واقع جديد من الاشتباكات على الأرض، ومن دمْج سائر المقاتلين والناشطين في إطار ميداني وسياسي واحد، بما يُسقط الزعم الإسرائيلي بمواجهة تقتصر على حماس والجهاد الإسلامي، فيما تتزايد مؤشرات انطلاق انتفاضة مدنية ثالثة في الضفة الغربية، وعمليات تفجيرية في العمق الإسرائيلي، بما يتساوق مع إيقاع المحنة الرهيبة والملحمة البطولية في غزة.

هذه التطورات تقود لعملية خلط كبرى للأوراق، والعودة إلى المربع صفر على صعيد ما كان يسمى «عملية سلمية»، وتجدد التشدد والتطرف بعد أن تغذى بعوامل شحن جديدة. لا تنبري العواصم العربية لفعل شيء لمواجهة التداعيات، سوى تقطيع الوقت وانتظار الفرج من المجهول.. فيما المعلوم «معلوم يا ولدي».

الحرب على غزة: جديد يستنسخ القديم.. تحدٍّ دوري متجدد واستجابة أمّة خارج التاريخ
 
01-Jan-2009
 
العدد 57