العدد 57 - ثقافي
 

بعد صراع طويل مع مرض سرطان الحنجرة، رحل الكاتب المسرحي البريطاني (الفائز بنوبل للأدب العام 2005) هارولد بنتر، ليلة عيد الميلاد. برحيله يستذكر قراؤه ودارسوه تراثه المسرحي الفذ، ومواقفه الشجاعة ضد أشكال القهر وانتهاك حقوق الإنسان، وصدامه الحاد مع السياسة الأميركية في العالم، وبخاصة في المنطقة العربية.

اختار بنتر أكثر أشكال العمل الإبداعي بعداً عن الالتزام بمفهومه الضيق، وكأنه أراد أن يلقن درساً لأولئك الذين يفسرون معنى الالتزام بحرفية جامدة، بأن التمرد بصيغته الجمالية (وهو ما كان يمثله بنتر في أشكاله الأدبية المتفردة) لا ينفصل عن الاحتجاج بمفهومه السياسي المباشر.

بنتر، أحد الأقطاب المهمين في المسرح الطليعي، وكانت «حفل عيد الميلاد» أولى مسرحياته الطويلة، التي كتبها العام 1957. هذه المسرحية والعديد غيرها التي كتبها لاحقاً، مثل: «العودة إلى البيت» و«الخيانة» و«الحارس»، تنتمي الى مسرح عصف فيه المؤلفون بكل المقومات التقليدية للعمل المسرحي، فلم تعد ثمة بداية ووسط ونهاية، كما لا يمكن الحديث عن حبكة درامية، فالحوار هو العبث بعينه وكأنه تجسيد لـ«حوار الطرشان»، فليس صالحاً للتواصل أو إيصال أي مضمون للطرف الآخر. والأحداث في هذا المسرح تتطور بالتداعي، كما في الأحلام، وليس وفقاً لأي منطق سائد.

لم يستهو كاتب هذه السطور كاتب مسرحي غربي، في فترة مبكرة من الولع بالمسرح، مثل بنتر إثر قراءة نصه الإشكالي «الحارس»، ، شأنه شأن كل المجددين من كتاب المسرح في خمسينيات القرن الماضي، بالابتعاد عن رسم حبكة تقليدية، وتقدم شخصيات تبدو تفتقر الى الدوافع المقننة، والوضوح، وتعبر عن إحساس بالصدمة، الحيرة، القلق، والتشظي. وقد استثمر المخرج العراقي شفيق المهدي بعد التشظي لشخصيات النص حينما أخرجه العام 1986 في كلية الفنون ببغداد، فأوغل في تقويض بنية التشخيص التي صاغها بنتر، واضعاً في داخل كل شخصية من شخصياتها الثلاث قرينين أو ثلاثة أقران مجسدة، كأنه يقدم من خلال ذلك شريحة صغيرة مكثفة لمجتمع كامل، أو عالم كبير بلا تخوم، إشارةً منه الى أن الجنس البشري بنسائه ورجاله يمارس لعبة مأساوية لا إنسانية.

ثمة نص مسرحي آخر لبنتر يثير «القلق» هو نصه القصير «لغة الجبل».وقد ترجم ترجمةً ممتازة على يد الناقدة المسرحية المصرية نهاد صليحة، التي نشرته ملحقاً بأحد كتبها النقدية، بموضوعاته الحساسة وبنيته الدرامية وفترات الصمت البليغة التي تهيمن عليه، وهي مما برع به بنتر في العديد من نصوصه، اعتقاداً منه بأن اللغة ليست أداةً عقيمةً توهم الإنسان بالتواصل مع الآخر، بل أداة قهر وتسلط. ورغم أن ميول كاتب هذه السطور النقدية آنذاك (1992) كانت تغطي على الرغبة الذاتية في الإخراج المسرحي، إلا أن هذا النص يشد بقوة إليه كالمغناطيس، ويغري لتجسيده على المسرح، واختبار المخيلة الإخراجية، والرؤية التجريبية له.

كنت يومها مدرساً للمسرح في معهد الفنون الجميلة بالموصل، فعرضت فكرة إنتاج النص على قسم الفنون المسرحية، لكنهم طلبوا التريث الى حين قراءته، والتأكد من سلامته الفكرية! أي إجازته وفق المعايير الرقابية. وبعد أيام جاءت الموافقة مشروطةً بحذف كلمة «الجبل» من عنوان النص تخوفاً من أنها ستوحي للمتلقي، ثم للجهاز الأمني بالضرورة، بأن الحدث الدرامي يجري في كردستان العراق. وفي الحقيقة أن العنوان كان يمكن أن يوحي بذلك فعلاً، لأن بنتر كتب النص إثر زيارته الى شرق تركيا، أو ما يعرف بكردستان تركيا العام 1982، مبعوثاً من منظمة العفو الدولية لتقصي الحقائق حول القمع الذي تتعرض له الثقافة الكردية، ومنها اللغة الكردية التي تحظر السلطات التكلم بها. وموضوع النص هو حرمان أهل الجبل من الحديث بلغتهم، وإجبارهم على تبني لغة أخرى، هذا الحرمان الذي جعل منه بنتر رمزاً شاملاً للقهر في شتى تجلياته، فحول اللغة الى حقل صراع سياسي، والصوت البشري الى طاقة ثورية إذا اختار التحدي.

تتوزع أحداث النص الى أربع لوحات تدور كلها في سجن يقبع في زنزاناته سجناء رأي أغلبهم من أهل الجبل، وقد جاءت نساؤهم لزيارتهم، فيستدل من خلال تلك اللوحات أن السلطة تعذب السجناء ، وتتعامل معهم بوصفهم فضلات وقاذورات ليس إلا، لأنهم من وجهة نظرها أعداء الدولة، وتمنع نساءهم، باسم القانون، من التحدث معهم بلغتهن القومية، من دون أن يحددها المؤلف سوى أنها لغة الجبل:

«لقد ماتت لغتكم. مُنع استخدامها وتداولها. ليس من المسموح الحديث بلغة الجبل هنا. إياكم والحديث بها مع رجالكم.. ممنوع.. عليكم باستخدام لغة العاصمة.. إنها اللغة الوحيدة المسموح بها هنا.. ستتعرضون لأشد العقاب.. هذا أمر عسكري.. إنه القانون.. لغتكم ممنوعة. ماتت..». كما أن السلطة تتعامل مع هؤلاء النسوة بازدراء، وتهين كرامتهن، وتكشف عن عدائها القذر للمثقفين، بشكل خاص، فتشتمهم على لسان الجاويش: «معشر المثقفين أولاد الكلب»، وهو يتحرش بامرأة شابة جاءت لزيارة زوجها، ظاناً أنها مثقفة، عبر إشارة الى «أن أردافها تهتز»، وأن «أكثر الأرداف اهتزازاً هي الأرداف المثقفة»، ويعرض عليها، مثل قواد محترف، بأن تنام مع أحد المسؤولين، الذي اعتاد أن يأتي الى السجن كل أسبوع، مقابل السماح لها بمقابلة زوجها.

أول ما يلفت الانتباه في النص هو وجهه السياسي الصريح الهادف، ثم أسلوب الاختزال الصارم، والتكثيف الشديد، والتقطير الدقيق الذي انتهجه بنتر. وكما يدل عنوانه، ينطلق النص من اللغة، لا كأداة توصيل، أو وسيلة تعبير وتواصل فحسب، بل بوصفها موضوعاً شائكاً، وساحة صراعٍ ضارٍ، فاللغة هنا تتبدى في مفهوم حديث كسلاح تسلط وهيمنة، وحقل صراع أيديولوجي، هذا المفهوم الذي يتسق بل وينبثق من النظرات الحديثة في طبيعة الثقافة واللغة، كما طرحها ميشيل فوكوه، وميخائيل باختين، وغيرهم.

وقد اضطررت إزاء الحساسية من كلمة «الجبل» التي واجهني بها قسم الفنون المسرحية الى تغييرها بكلمة «الثلج»، وإلاّ كان سيقابل المشروع بالرفض. هكذا قدمت العرض باسم «لغة الثلج». ورغم تغيير العنوان لم يسلم العرض من القال والقيل، وكتابة بعض المغرضين تقارير للجهات الأمنية. ولكن الرغبة في تقديم النص بعنوانه الأصلي ظلت قائمة حتى انتقالي الى التدريس في الجامعة العام 1993، فأتيحت لي فرصة إخراجه من جديد مع طلبة قسم المسرح في كلية التربية الفنية بجامعة بابل. ولحسن الحظ لم يكن هناك من يعترض على كلمة «الجبل»، أو يطلب تقديم النص لفحصه وإجازته، وهو أمر كان يندر حدوثه في كلية الفنون العريقة في بغداد، حيث لم يكن باستطاعة أي مخرج من أساتذتها أن يخرج نصاً مسرحياً من دون حصوله على موافقة جهة مسؤولة عن فحص النصوص، وكأنها أحزمة ناسفة، أو سيارت ملغومة بالديناميت.

غياب هارولد بنتر: تضافر الحس الجمالي والتمرد السياسي
 
01-Jan-2009
 
العدد 57