العدد 57 - حتى باب الدار
 

لسنوات عدة متتالية، تدل نتائج استطلاع الديمقراطية في الأردن الذي يجريه مركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الأردنية، على أن نسبة تدور حول 80 في المئة من الأردنيين ما زالت تخاف من انتقاد الحكومات علناً، لكن المفارقة –وكما أظهر الاستطلاع نفسه- أن الذين تعرضوا فعلاً للأذى بسبب انتقادهم للحكومات لم تتجاوز نسبتهم 1 في المئة من الناس، وقد استنتج معدّو آخر استطلاع أعلن السبت 27/ 12/2008 أن غالبية الشعب تبني موقفها على ما حصل مع 1 في المئة من هذا الشعب.

في ما يلي محاولة للنظر في تاريخ ظاهرة الخوف من السلطة، بما قد يسمح بتفسير النتيجة التي توصل إليها الاستطلاع.

تاريخ الخوف

الخوف من السلطة ظاهرة حديثة في الأردن بحكم حداثة السلطة فيه، والكلام هنا عن السلطة المركزية وليس عن السلطة بالمطلق، ذلك أن أي مجتمع مهما صغر، قرية أو حتى عشيرة مثلاً، ينطوي على سلطة، لكن مواصفاتها ومواصفات ممارساتها تختلف عما هو الحال في سلطة الدولة المركزية.

لم يكن تأسيس إمارة شرق الأردن مترافقاً مع تأسيس سلطة مركزية فيه، ويمكن بسهولة رصد أن العقود الثلاثة الأولى من عمر الدولة، كانت أشبه بفترة التأسيس لإقامة سلطة لم تكن في بدايتها تشكل مصدر خوف.

بالمقابل، كانت سلطة المجتمع المحلي في القرى والبلدات والتجمعات البدوية، أقوى وأكثر رسوخاً ولها الأولوية، ولم تكن حياة الناس ووسائل تحصيل رزقهم تتقاطع كثيراً مع توجهات السلطة الناشئة، وبالتالي فقد مارس الناس حياتهم بدرجة ملحوظة من الاستقلالية. في تلك الأثناء كان الخوف من السلطة مبهماً، وقد تمنّع المجتمع أمام الاعتراف بالسلطة الجديدة التي كانت تسعى إلى تعزيز قوتها واستكمال أدواتها، بوجود عدد من الضباط الإنجليز الذين راحوا يحاولون إيجاد شتى أنواع الروابط والعلاقات -والعقوبات- مع المجتمع المحلي لتحقيق المزيد من السيطرة والضبط. يمكن من خلال النظر الى سيرة أي من المعارضين في الثلاثينيات والأربعينيات، تبين تلك العلاقة المبهمة، فالشخص نفسه يكون مقرباً من الحكم في لحظة ثم يجري نفيه أو سجنه ثم يعود مقرباً. وحتى في المركز عمان، فإن صغر البلدة (35 ألفاً حتى منتصف الأربعينيات) وبساطة العلاقات ووجود الأمير والجنرال كلوب وباقي الضباط الإنجليز كذلك على تماس مباشر مع الناس،لم يسمح بأن تتميز السلطة كجهة تقع على مسافة بعيدة من الناس.

يروي نبيه رشيدات وهو من مؤسسي الحزب الشيوعي في مذكراته، أنه إثر اندلاع ثورة رشيد عالي الكيلاني في العراق العام 1941 ضد الإنجليز، وعندما كان هو من بين المتحمسين للثورة أجرى لقاء مع الأمير طلال وعرض عليه الانضمام للثورة، لأن ذلك سيدفع عدداً كبيراً من الشباب العربي للانضمام «وسوف نحرر العراق من الإنجليز ثم نذهب الى سورية ونحررها من الاستعمار الفرنسي ثم نأتي الى الأردن ونطرد الاستعمار البريطاني ونقيم أول دولة عربية متحررة، فنظر إليّ متعجباً وقد أثر حماسي فيه وفكر قليلاً وقال: خلينا نفكر يا نبيه» (1) وهذا يشير الى شكل خاص من العلاقة بين السلطة والناس ساد في تلك الفترة.

الخمسينيات والستينيات

شكلت الخمسينيات عقد المحاولات الجدية لتثبيت السلطة وبناء أدواتها وفرض هيبتها، لكن عناصر الثقافة والبنية الاجتماعية استمرت بالتسلل الى أغلب مظاهر الممارسات السلطوية.

لم يكن الخوف من السلطة منتشراً على نطاق واسع، وكان الاشتراك في تظاهرة على سبيل المثال يتم ببساطة دون الحاجة أحياناً إلى السؤال عن سبب قيامها، فقد سارت في إربد تظاهرة تضامنية مع غواتيمالا في مطلع الخمسينيات، دون أن يعرف أغلب المتظاهرين شيئاً عن ذلك البلد، وفي الرمثا كان الناس بعد أن يستمعوا إلى اسم الخليل في الإذاعة كبلدة تجري فيها التظاهرات، يندفعون في اليوم التالي للتظاهر ثم انتظار أن يذاع اسم بلدتهم، ولا ندري لماذا اختار الناس في الرمثا بلدة الخليل تحديداً للمقارنة.

يروي يعقوب زيادين في كتابه «البدايات» أنه وأثناء ملاحقته ذات يوم ناداه أحد الجنود المكلفين بالقبض عليه بقوله: «يا دكتور، ارجع أنت مراقب، هكذا يقول الضابط».

وحتى بعد الاعتقال الشهير لألوف المعارضين في الجفر في النصف الثاني من الخمسينيات ومطلع الستينيات، فإن عناصر البنية الاجتماعية الثقافية كان لها حضور قوي في كل المراحل، وكما يذكر زيادين في الكتاب نفسه، فإن إدارة السجن كانت تتبدل مرة كل شهرين « ولم يصادف ولا مرة واحدة أن جاءنا مدير للسجن لم يكن بيننا له قريب أو صديق، وبالتالي فقد كانت معاملتهم لنا تتصف باللين والمسايرة وما هو أكثر من ذلك أحياناً، وكانت الحراسات تتبدل كل ثلاثة أشهر، وكانوا يبدأون بغاية الشراسة وبعد مدة يتبدل التعامل» (2).

مع ذلك فقد تعرف الناس في تلك الفترة على السلطة وعلى الخوف منها، وإن بشكل محدود وبمواصفات خاصة، فعلى سبيل المثال عندما اعتقل العشرات من أهل الرمثا إثر تظاهرات الاحتجاج على حلف بغداد وبعد حادثة «إعلان الجمهورية» الشهيرة، حصل بعد أيام من الاعتقال أن بدأ المعتقلون إضراباً عن الطعام وبعد مفاوضات وافق المضربون على فك الإضراب شرط أن يكون ذلك «على مناسف»، وحسب الراوي فقد تحقق لهم ذلك المطلب.

لقد بقي عقد الخمسينيات في ذاكرة الأردنيين مثالاً للسلطة وسطوتها ولكن في الوقت نفسه مثالاً للتمرد.

من الزاوية التي نعالجها، لم يختلف عقد الستينيات عن سابقه، وإن كان النصف الثاني منه قد شكل مرحلة ذات خصائص جديدة من حيث تراجع الخوف من السلطة. لكن نهاية ذلك العقد ستشكل نهاية لتلك المرحلة، لتبدأ مع مطلع السبعينيات مرحلة جديدة كلياً.

الحكومات والناس..“قرد مْوالِف ولا غزال مْخالِف”
 
01-Jan-2009
 
العدد 57