العدد 56 - دولي
 

صلاح حزين

حرب برد، أو حرب باردة جديدة يبدو أنها تلوح في الأفق بين أوروبا وروسيا. ليس المقصود هنا تلك الصراعات التي تدور رحاها بين روسيا بوصفها قوة إقليمية عظمى تحاول أن تجد لها مكانا تحت شمس أوروبا الباردة. محاولات تبذلها الولايات المتحدة في الدرجة الأولى، لكنها تجد لها تأييدا من بعض دول أوروبا على الأقل، لمحاصرة روسيا وإبقائها محجمة داخل حدودها الجغرافية، من خلال استقطاب أنظمة حليفة للغرب، وفي الوقت نفسه معادية لروسيا، وهي في الغالب دول كانت حتى سقوط الاتحاد السوفييتي السابق، إما أنها جزء منه أو أنها حليف له في إطار حلف وارسو الذي كانت دول المعسكر الاشتراكي تنضوي في إطاره بقيادة موسكو آنذاك.

الحرب الباردة المقصودة هنا هي حرب البرد وأداته الغاز الذي تستخدمه أجزاء واسعة من أوروبا لمواجهة بردها القارس والذي يأتي الجزء الأعظم منه من روسيا وذلك عبر كل من أوكرانيا وروسيا البيضاء، وهما بلدان كانا يوما يشكلان جزءا من الاتحاد السوفييتي. فقد أعرب عدد من الدول الأوروبية عن قلقه من أن يجد نفسه من دون ما يكفي من الغاز الذي يأتي من روسيا عبر أوكرانيا نتيجة الخلافات القديمة الجديدة بين موسكو وكييف على أسعار الغاز وعلى مديونية أوكرانية مستحقة لموسكو ما زالت المفاوضات جارية بشأنها.

موسكو تحمل مسؤولية الخلاف لنظام الرئيس فكتور يوتشنكو، الخصم اللدود لروسيا وقائد الثورة البرتقالية التي أطاحت نظاما مقربا من موسكو في البلاد في العام 2004، وأقام بدلا منه نظاما مؤيدا للغرب ومعاديا لروسيا، وهو نظام لم يتردد في اتخاذ خطوات عملية للانضمام إلى حلف شمال الأطلسي، بدعم معلن وواضح من الولايات المتحدة ودعم خفي ومتحفظ من جانب بعض الدول الأوروبية وتسويف من دول أخرى. أما أوكرانيا، التي تقف أمام استحقاق انتخابي قد يطيح القيادة الحالية للبلاد برئاسة يوتشنكو ويأتي بنظام جديد لا يعرف أحد توجهاته، فهي تؤكد أن كل شيء سيكون على ما يرام طوال العام 2009، مذكرة الدول الأوروبية بأن لديها هي، أي أوكرانيا، مخزونا كافيا من الغاز، وكذلك الدول الأوروبية، ولكن أوروبا تشكك في الإعلان الأوكراني وتعرب عن خشيتها من أن المخزون الموجود لديها قد لا يكفيها لمدة طويلة، وبخاصة إذا كان شتاء هذا العام باردا مثل شتاء العام 2005، ما يعني إجبارها، أي أوروبا، على استهلاك القسم الأكبر من مخزونها لمواجهة البرد المنتظر، كما أن هنالك استحقاقا آخر سوف تجد الدول الأوروبية نفسها أمامه، وهو أن اتفاقية تزود أوروبا بالغاز من روسيا تنتهي مع انتهاء العام الجاري، والمشاورات جارية بشأن تمديده.

مكونات حرب البرد هذه بين روسيا وأوروبا تبدو جاهزة للتحول إلى أزمة، وذلك في ظل اتهامات أوروبية لروسيا بأنها تدخل السياسة في الاقتصاد، وأنها تسعى إلى تحويل خلافها مع نظام الرئيس الأوكراني إلى ورقة ضغط على أوروبا لإجبارها على اتخاذ موقف معارض لانضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو، وتحويل حاجة أوكرانيا إلى الغاز الروسي إلى ورقة ضغط أخرى تلعبها روسيا لإطاحة يوتشنكو، وإن يكن ذلك عبر الانتخابات التي ستجري العام المقبل، والتي يتنافس فيها الرئيس يوتشنكو مع رئيسة وزرائه يوليا تيموشنكو التي تتخذ موقفا وديا تجاه موسكو، بعكس موقف يوتشنكو المتشدد.

روسيا تشدد على الجانب الاقتصادي من الخلاف مع أوكرانيا التي ترزح تحت عبء مديونية ضخمة يفاقمها تضخم هائل الحجم وانهيار لسعر عملتها الوطنية، الهريفنيا، فأوكرانيا، في النهاية، ليست سوى معبر للغاز الروسي الذي يمر نحو 80 في المئة مما تصدره منه روسيا إلى أوربا عبر أوكرانيا، وهي مدينة لروسيا بما يناهز 2.3 بليون يورو، وهو مبلغ يمثل مستحقات أوكرانية متأخرة لروسيا نتيجة عقود تصدير الغاز الروسي عبر الأراضي الأوكرانية. وتتخذ مشكلة أوكرانيا أبعادا جديدة بسبب عجز الأخيرة عن تسديد هذه المديونية، مع وضعها الاقتصادي المترنح الذي لم تفلح في إنعاشه مديونية كبيرة منحها لها كل من صندوق النقد الدولي والاتحاد الأوروبي تزيد على 11 بليون يورو، وهو ما يعني أن الباب سيبقى مفتوحا أمام روسيا التي تطالب بتحصيل ديونها من أوكرانيا وتوقيع عقد جديد معها حول إمدادات الغاز المصدرة إلى أوروبا التي تنتهي مع انتهاء العام الجاري، والتي لم تستطع الأطراف المعنية؛ روسيا والاتحاد الأوروبي وأوكرانيا التوصل إلى حل في شأنها بعد، وهو فشل تلقي موسكو باللائمة فيه على أوكرانيا وموقفها غير البناء من المطالب الروسية المشروعة.

أوروبا التي تنظر بعين الريبة إلى موقف موسكو، تربط بين ما يجري على الجبهة الروسية الأوكرانية، وبين سعي روسي، مع عدد من دول العالم المصدرة للغاز، إلى تأسيس منظمة تحافظ على مصالح هذه الدول، وذلك على غرار منظمة الدول المصدرة للبترول (أوبك). ولا يخفف من الريبة الأوروبية كل ما تسمعه من تصريحات من جانب المسؤولين الروس عن أن المنظمة الجديدة لن تكون ذات طابع احتكاري، وأنها سوف تتصرف بمسؤولية فيما يتعلق بإمدادات الغاز الأوروبية.

المنظمة التي يجري العمل على تأسيسها منذ العام 2001، تضم نحو اثنتي عشرة دولة مصدرة للغاز وعلى رأسها روسيا وإيران وقطر، وهذه البلدان الثلاثة تسيطر على ثلث الغاز المصدر في العالم. وقد اتفقت هذه البلدان أخيرا على تشكيل مجلس ثلاثي (ترويكا) للغاز ليكون نواة للمنظمة التي تحتضن روسيا اجتماعا للدول الساعية إلى الانضمام إليها، يعقد قبل انتهاء العام لبحث تفاصيل إنشائها.

حرب البرد، أو الحرب الباردة الجديدة، لها بعد آخر، يتمثل في انقسام أوكرانيا بين قوى سياسية مؤيدة للغرب برئاسة يوتشنكو وقوى أخرى تكاد تكون مساوية لها في القوة تؤيد علاقات أقوى مع روسيا، ومعظم هؤلاء من أصول روسية. وقد فاقم الصراع بين هاتين القوتين في البلاد الشرخ الذي أصاب معسكر يوتشنكو حين خرجت من صفوفه رئيسة وزرائه والحليفة الكبرى له في ثورته البرتقالية، يوليا تيموشنكو، واتخذت موقفا قريبا من موسكو، ما يضيف إلى قوة المعسكر المناويء ليوتشنكو ويقلص من قوة الأخير الذي قد يجد نفسه في صفوف المعارضة إذا ما أسفرت الانتخابات المقبلة عن نجاح ذلك المعسكر. وفي هذه الحالة سوف تتعقد مكونات حرب البرد بأطرافها الثلاثة: أوكرانيا الضعيفة اقتصاديا، وروسيا التي لا تكترث بواقع أن أسعار الغاز تشهد انخفاضا كبيرا هذه الأيام، فهي تراهن على أنها ستعود إلى الارتفاع مجددا، وأوروبا التي بدأت تشهد دعوات للبحث عن طاقة بديلة، حتى لا تبقى أسيرة انتظار الغاز الروسي الذي قد يأتي ولا يأتي لتخليصها من برد السنين المقبلة.

روسيا والاتحاد الأوروبي على أبواب “حرب برد” جديدة
 
25-Dec-2008
 
العدد 56