العدد 56 - ثقافي
 

مراجعة: لارا ديب*

دمشق القديمة الجديدة:

الأصالة والتميز في سورية المدينية

في الوقت الذي يحيل فيه ذكر سورية، سواء في الخطاب العام أو العمل الأكاديمي في أميركا الشمالية، إلى "الحرب على الإرهاب" أو محاولات الولايات المتحدة العنيفة لإعادة تشكيل الشرق الأوسط؛ فإن كتاب كريستينا سالاماندرا "دمشق القديمة الجديدة: الأصالة والتميز في سورية المدينية" يقدم متنفساً جديداً. فالكتاب القائم على بحث ميداني أجري في دمشق بين العامين 1992 و1994، يركز على ما تسميه الكاتبة أحيانا "العائلات القيادية القديمة" أو "النخبة الدمشقية"، ما يجعله إسهاماً في دراسة منطقة لم تحظ بالقدر الكافي من البحث هي أنثروبولوجيا النخب.

ببنائها على نظريات بورديو حول التميز والعلاقة بين الاستهلاك والوضع الاجتماعي، تصب سالاماندرا جل اهتمامها على تركيبة هوية النخبة الدمشقية من خلال الاستهلاك والإنتاج الثقافي. وهي تجادل في أن دمشق و"الخصوصية الدمشقية" يشكلان نقاطا مركزية في المداولات والجدل حول الهوية، الوضع الاجتماعي، الأصالة، والحظوة. وبأن مثل هذه النقاشات تحدث في صورة أساسية من خلال "نقد متوتر" أو من خلال "شعرية الاتهام" (ص 22). وتتعقب فصول الكتاب هذه الخطابات الجدلية، كما تبرز في إنتاج تشكيلة واسعة من الاستحضارات النصية والبصرية للمدينة القديمة. وفي صورة خاصة، تعرض سالاماندرا لتاريخ دمشق وجغرافيتها المدينية، وإلى الجنوسة والتنافسية، وتسليع التراث من خلال مراكز الترفيه مثل: المطاعم، والممارسات الرمضانية، والمسلسلات التلفزيونية، والمذكرات، وغيرها من أشكال النتاج الثقافي.

يُعد الفصلان قبل الأخيرين أهم معالم الكتاب. هنا، تقدم سالاماندرا تصويرا غنيا للممارسات الرمضانية بين النخبة والتباهي الاستعراضي الذي يميز الصوم والإفطار على حد سواء، إلى جانب النقد المحلي لهذا التباهي النابع من داخل المجتمع. يتبع هذا تحليل للعديد من المسلسلات التلفزيونية الرمضانية وعلاقتها بتركيبة "دمشق القديمة" بوصفها تعبيرا مجازيا عن شريحة معينة من النخبة المدينية. الفصل التالي يتناول المذكرات، والفنون البصرية، والأفلام الوثائقية المعطرة بالحنين إلى المدينة القديمة وتسهم في ربطها بالوضع الاجتماعي. تنسج سالاماندرا تحليلاتها للفنون الشعبية والعمارة من خلال مناقشة فكرتي الأصالة والتقاليد، كما يوظفها المتحدثون من النخبة وهم يصوغون خطاب المدينة. وتجدر الإشارة هنا إلى الفصل الذي يعالج الجنوسة والاستهلاك. فمن ناحية، نجد أن تضمين هذا التناول المفصل لاندماج المرأة الاجتماعي يشكل واحدا من مواضع محدودة في الكتاب الذي تعتبر فيه مجادلة سالامندرا بأن "التناقس المتوتر هو حالة رئيسية من الاندماج الاجتماعي بين النخب السورية"، يشرح من وجهة نظر علم الأجناس. ومن ناحية أخرى فإن التعرض بالنقد للأدبيات العلمية السابقة في دراسات الأنثروبولوجيا والجنوسة التي تظهر خلال الفصل، تقوم على تعميمات وافتقار لأنطمة التوثيق والعمق التاريخي الذي كان من شأنه أن يضفي خصوصية ووزنا إضافيا. فالإشارة إلى "حفلات الحريم الصاخبة التي تشير في معظم الأدبيات إلى المرأة الشرق أوسطية" (ص 61) مثلاً، لا تأخذ بالاعتبار الأعمال الأخيرة التي تخرج عن هذه النمطية أو عن الاختلافات في سياق علم الأجناس. من المؤسف أن مثل هذه القطع تختصر وجهة نظر سالاماندرا حول تحليلات متماسكة للنقاشات أو العداوات الاجتماعية في بحث حول ديناميات الحجج المتوترة لأنثروبولوجيا الكراهية.

يطلب المرء دوما من الدراسات الإثنوغرافية أكثر مما يمكنها تقديمه في مساحة محدودة. وفي حالة "دمشق الجديدة القديمة"، فإن نقاط القوة فيه – بخاصة تضمينه أصواتا متعددة والنسيج البارع للمؤلفة للجوانب المتعددة للممارسات والنتائج الثقافية– تفضي إلى محدوديتها الرئيسية، فيُترك القارئ بإحساس واضح للجدل المتشعب ووجهات النظر المختلفة في المشهد "الدمشقي"، لكنه في الوقت نفسه يترك من دون خريطة للمشهد الاجتماعي والسياسي والاقتصادي الذي يُمكن من خلاله تفسير هذا التنوع. كان ممكنا تحسين الجوانب الإثنوغرافية الواردة في النص من خلال إيلاء قدر أكبر من الانتباه إلى الروابط العائلية، والعلاقات الاجتماعية، وللكيفية التي تعمل فيها الطبقات الاجتماعية الاقتصادية والوضع الاجتماعي يوميا لمحاوري المؤلفة. وبالمثل فإن قلة اهتمام سالاماندرا المتعمد بدور الدولة السورية والإسلام يمثل نقلة حميدة، فإنه بالنسبة للقارئ غير المتمرس خطأ وقع فيه الكتاب بإغفاله هذين العنصرين وغيرهما، حيث أنهما وغيرهما من العناصر تضع السياق للخطابات التي تركز المؤلفة عليها. ثمة مجموعة أخرى وأخيرة من الأسئلة تُثار – ربما لدراسة مستقبلية- وتتعلق بدور العلاقات الانتقالية في هذا الحقل من النتاج الاستطرادي. فالكتاب يشير غير مرة إلى موضوع العولمة، ولكان الكتاب اكتسب عمقا أكثر لو أنه قدم تحليلا للطريقة التي تتنقل فيها الأفكار حول الاستهلاك والتراث والهوية – خاصة فيما يتعلق ببيروت وإسطنبول، وهما عاصمتان مجاورتان تعيشان جدلا مماثلا-.

على الرغم من هذه الثغرات، فإن سالاماندرا قدمت تقييما رائعا للانتشار المتواتر لـ"دمشق القديمة" كنوع من المجاز المرتبط بتركيبة هوية النخبة. عندما يُقرأ الكتاب بهذا المعنى، نجد أنه تصوير واقعي إلى حد كبير، للتجليات المحلية للأنماط الكلاسيكية لصوغ التقاليد بما يخدم هوية حديثة في الأساس. لا شك في أن هذا الكتاب سيكون ذا أهمية للباحثين في الدراسات الشرق أوسطية والدراسات الثقافية، ويمكن الإفادة منه في الدراسة الجامعية الأولى مع مراجع أخرى تقدم إطار سياسي للطلية.

* قسم دراسات المرأة، جامعة كاليفورنيا، إرفاين كاليفورنيا.

بالتعاون مع:

المجلة الدولية لدراسات الشرق الأوسط

International Journal of Middle East Studies

دمشق القديمة:تصوير واقعي لهوية النخبة
 
25-Dec-2008
 
العدد 56